مسائل من أحكام المحاربين 
المسألة الأولى : اعلم أن جمهور العلماء يثبتون 
حكم المحاربة في الأمصار  [ ص: 397 ] والطرق على السواء ، لعموم قوله تعالى : 
ويسعون في الأرض فسادا ، وممن قال بهذا 
 nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد  ، وهو مذهب 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  ، 
ومالك  ، حتى قال 
مالك  في الذي يغتال الرجل فيخدعه ، حتى يدخله بيتا ، فيقتله ويأخذ ما معه ، إن هذه محاربة ، ودمه إلى السلطان ، لا إلى ولي المقتول ، فلا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل . 
وقال القاضي 
 nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي المالكي    : كنت أيام حكمي بين الناس ، إذا جاءني أحد بسارق ، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار ، وهو نائم ، وأصحابه يأخذون مال الرجل ، حكمت فيهم بحكم المحاربين ، وتوقف 
 nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد  في ذلك ، وظاهر كلام 
الخرقي  أنه لا محاربة إلا في الطرق ، فلا يكون محاربا في المصر ; لأنه يلحقه الغوث . 
وذهب كثير من الحنابلة إلى أنه يكون محاربا في المصر أيضا ، لعموم الدليل . 
وقال 
أبو حنيفة  ، وأصحابه : لا تكون المحاربة إلا في الطرق ، وأما في الأمصار فلا ; لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث ، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ، ويعينه . 
قاله 
ابن كثير    : ولا يثبت لهم حكم المحاربة ، إلا إذا كان عندهم سلاح . 
ومن جملة السلاح : العصي ، والحجارة عند الأكثر ; لأنها تتلف بها الأنفس والأطراف كالسلاح ، خلافا 
لأبي حنيفة    . 
المسألة الثانية : إذا كان 
المال الذي أتلفه المحارب ، أقل من نصاب السرقة الذي يجب فيه القطع ، أو كانت النفس التي قتلها غير مكافئة له ، كأن يقتل عبدا ، أو كافرا ، وهو حر مسلم ، فهل يقطع في أقل من النصاب ؟ ويقتل بغير الكفء أو لا ؟ . 
اختلف العلماء في ذلك ، فقال بعضهم : لا يقطع إلا إذا أخذ ربع دينار ، وبهذا قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  ، 
وأبو حنيفة  ، 
وأحمد  ، وقال 
مالك    : يقطع ولو لم يأخذ نصابا ; لأنه يحكم عليه بحكم المحارب . 
قال 
ابن العربي    : وهو الصحيح ; لأن الله تعالى ، حدد على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ربع دينار لوجوب القطع في السرقة ، ولم يحدد في قطع الحرابة شيئا ، ذكر جزاء المحارب ; فاقتضى ذلك توفية جزائهم على المحاربة عن حبة ، ثم إن هذا قياس أصل على أصل ،   
[ ص: 398 ] وهو مختلف فيه ، وقياس الأعلى بالأدنى ، وذلك عكس القياس ، وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق ، وهو يطلب خطف المال ؟ فإن شعر به فر ، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال ، فإن منع منه ، أو صيح عليه حارب عليه ، فهو محارب يحكم عليه بحكم المحاربين . اهـ كلام 
ابن العربي    . 
ويشهد لهذا القول ، عدم اشتراط الإخراج من حرز فيما يأخذه المحارب في قطعه ، وأما قتل المحارب بغير الكفء ، فهو قول أكثر العلماء ، وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  ، 
وأحمد  فيه روايتان ، والتحقيق عدم 
اشتراط المكافأة في قتل الحرابة   ; لأن القتل فيها ليس على مجرد القتل ، وإنما هو على الفساد العام من إخافة السبيل ، وسلب المال . 
قال الله تعالى : 
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ، فأمر بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع بين شيئين ، وهما المحاربة ، والسعي في الأرض بالفساد ، ولم يخص شريفا من وضيع ، ولا رفيعا من دنيء . اهـ من 
القرطبي    . 
قال مقيده - عفا الله عنه - : ومما يدل على عدم اعتبار المكافأة في قتل الحرابة ، إجماع العلماء على أن 
عفو ولي المقتول في الحرابة لغو لا أثر له ، وعلى الحاكم قتل المحارب القاتل ، فهو دليل على أنها ليست مسألة قصاص خالص ، بل هناك تغليظ زائد من جهة المحاربة . 
المسألة الثالثة : إذا حمل المحاربون على قافلة مثلا ، فقتل بعضهم بعض القافلة ، وبعض المحاربين لم يباشر قتل أحد ، فهل يقتل الجميع ، أو لا يقتل إلا من باشر القتل . فيه خلاف ، والتحقيق قتل الجميع ; لأن 
المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة ، فلا يتمكن المباشر من فعله ، إلا بقوة الآخر الذي هو ردء له ومعين على حرابته ، ولو قتل بعضهم ، وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم كلهم ، وصلبهم كلهم ; لأنهم شركاء في كل ذلك ، وخالف في هذا 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي    - رحمه الله - قال : لا يجب الحد إلا على من ارتكب المعصية ، ولا يتعلق بمن أعانه عليها كسائر الحدود ، وإنما عليه التعزير . 
المسألة الرابعة : 
إذا كان في المحاربين صبي ، أو مجنون ، أو أب المقطوع عليه ،   [ ص: 399 ] فهل يسقط الحد عن كلهم ؟ ويصير القتل للأولياء إن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا عفوا نظرا إلى أن حكم الجميع واحد ، فالشبهة في فعل واحد شبهة في الجميع ، وهو قول 
أبي حنيفة  ، أو لا يسقط الحد عن غير المذكور من صبي ، أو مجنون ، أو أب ، وهو قول أكثر العلماء ، وهو الظاهر . 
المسألة الخامسة : إذا تاب المحاربون بعد القدرة عليهم ; فتوبتهم حينئذ لا تغير شيئا من إقامة الحدود المذكورة عليهم ، وأما إن جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم ، فليس للإمام عليهم حينئذ سبيل ; لأنهم تسقط عنهم حدود الله ، وتبقى عليهم حقوق الآدميين ، فيقتص منهم في الأنفس والجراح ، ويلزمهم غرم ما أتلفوه من الأموال ، ولولي الدم حينئذ العفو إن شاء ، ولصاحب المال إسقاطه عنهم . 
وهذا قول أكثر العلماء مع الإجماع على سقوط حدود الله عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم ، كما هو صريح قوله تعالى : 
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم الآية [ 5 \ 34 ] ، وإنما لزم أخذ ما بأيديهم من الأموال ، وتضمينهم ما استهلكوا ; لأن ذلك غصب ، فلا يجوز لهم تملكه ، وقال قوم من 
الصحابة  والتابعين : لا يطلب المحارب الذي جاء تائبا قبل القدرة عليه إلا بما وجد معه من المال ، وأما ما استهلكه ، فلا يطلب به ، وذكر 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري  هذا عن 
مالك  من رواية 
 nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم  عنه . 
قال 
القرطبي    : وهو الظاهر من فعل 
 nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب    - رضي الله عنه - 
بحارثة بن بدر الغداني  ، فإنه 
كان محاربا ، ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا ، ونحوه ذكره 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير    . 
قال 
ابن خويز منداد    : واختلفت الرواية عن 
مالك  في 
المحارب إذا أقيم عليه الحد ، ولم يوجد له مال ، هل يتبع دينا بما أخذ ؟ أو يسقط عنه ، كما يسقط عن السارق ، يعني عند 
مالك  ، والمسلم ، والذمي في ذلك سواء ، ومعنى 
قوله : فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا   [ 5 \ 32 ] ، اختلف فيه العلماء ، فروي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أنه قال : معناها أن من قتل نبيا ، أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياه ، بأن شد عضده ونصره ، فكأنما أحيا الناس جميعا ، نقله 
القرطبي  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير  وغيرهما ، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن .  
[ ص: 400 ] وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أيضا أنه قال : المعنى ، أن من انتهك حرمة نفس واحدة بقتلها ، فهو كمن قتل الناس جميعا ; لأن انتهاك حرمة الأنفس ، سواء في الحرمة والإثم ، ومن ترك قتل نفس واحدة واستحياها خوفا من الله ، فهو كمن أحيا الناس جميعا ، لاستواء الأنفس في ذلك . 
وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : 
فكأنما قتل الناس جميعا ، أي عند المقتول إذ لا غرض له في حياة أحد بعد موته هو ، ومن أحياها واستنقذها من هلكة ، فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ ، وقال 
مجاهد    : المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيما ، ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك ، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه . 
واختار هذا القول 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير  ، وقال 
ابن زيد    : المعنى أن من قتل نفسا يلزمه من القصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا ، قال : ومن أحياها ، أي عفا عمن وجب له قتله ، وقال الحسن أيضا : هو العفو بعد المقدرة ، وقيل : المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه ، لأنه قد وتر الجميع ، ومن أحياها وجب على الكل شكره ، وقيل : كان هذا مختصا 
ببني إسرائيل  ، وقيل : المعنى أن من استحل قتل واحد ، فقد استحل الجميع ; لأنه أنكر الشرع ، ومن حرم دم مسلم ، فكأنما حرم دماء الناس جميعا ، ذكر هذه الأقوال 
القرطبي  ، 
وابن كثير  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير  وغيرهم ، واستظهر 
ابن كثير  هذا القول الأخير ، وعزاه 
 nindex.php?page=showalam&ids=15992لسعيد بن جبير    . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  في صحيحه ، باب قول الله تعالى : 
ومن أحياها ، قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعا . 
وقال 
القرطبي    : إحياؤه عبارة عن الترك ، والإنقاذ من هلكة ، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع ، إنما هو لله تعالى ، وهذا الإحياء ، كقول 
نمرود  لعنه الله : 
أنا أحيي وأميت   [ 2 \ 258 ] ، فسمى الترك إحياء . 
وكذلك قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير  ، 
قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية ، اعلم أن هذه الآية اختلف في سبب نزولها ، فقيل : نزلت في قوم من المشركين ، وقيل : نزلت في قوم من أهل الكتاب ، وقيل : نزلت في الحرورية .  
[ ص: 401 ] وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح ، وغيرها ، أنها نزلت 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007464في قوم " عرينة " ، و " عكل    " الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة  ، فأمر لهم - صلى الله عليه وسلم - بلقاح ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ، وألبانها ، فانطلقوا ، فلما صحوا وسمنوا ، قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا اللقاح ، فبلغه - صلى الله عليه وسلم - خبرهم ، فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون ، فلا يسقون حتى ماتوا   . 
وعلى هذا القول ، فهي نازلة في قوم سرقوا ، وقتلوا ، وكفروا بعد إيمانهم ، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها ، والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطاع الطريق من المسلمين ، كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى : 
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم الآية ، فإنها ليست في الكافرين قطعا ; لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه ، كما تقبل قبلها إجماعا ; لقوله تعالى : 
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف   [ 8 \ 38 ] ، وليست في المرتدين ; لأن المرتد يقتل بردته وكفره ، ولا يقطع لقوله - صلى الله عليه وسلم - عاطفا على ما يوجب القتل : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007465والتارك لدينه المفارق للجماعة   " ، وقوله : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007466من بدل دينه فاقتلوه   " ، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين ، فإن قيل : وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله ؟ فالجواب : نعم . 
والدليل قوله تعالى : 
ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله   [ 2 \ 278 ، 279 ] . 
تنبيه 
استشكل بعض العلماء 
تمثيله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين   ; لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل ، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به . 
واختلف في الجواب ، فقيل فيه ما حكاه 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري  عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم ، وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين    : كان ذلك قبل نزول الحدود ، وقال 
أبو الزناد    : إن هذه الآية معاتبة له - صلى الله عليه وسلم - على ما فعل بهم ، وبعد العتاب على ذلك لم يعد ، قاله 
أبو داود    . 
والتحقيق في الجواب هو أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل بهم ذلك قصاصا ، وقد ثبت في صحيح   
[ ص: 402 ] مسلم  وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سمل أعينهم قصاصا ; لأنهم سملوا أعين رعاة اللقاح ، وعقده 
البدوي الشنقيطي  في " مغازيه " بقوله : [ الرجز ] 
وبعدها انتهبها الألى انتهوا لغاية الجهد وطيبة اجتووا     فخرجوا فشربوا ألبانها 
ونبذوا إذ سمنوا أمانها     فاقتص منهم النبي أن مثلوا 
بعبده ومقلتيه سملوا 
واعترض على الناظم شارح النظم 
حماد  لفظة " بعبده " ; لأن الثابت أنهم مثلوا بالرعاء ، والعلم عند الله تعالى .