صفحة جزء
قوله تعالى : لم يلد ولم يولد .

تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان شواهده عند قوله تعالى : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 25 \ 2 ] من سورة الإسراء .

تنبيه

ففي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة ; لأن اتخاذ الولد قد يكون بدون ولادة كالتبني أو غيره ، كما في قصة يوسف في قوله تعالى عن عزيز مصر : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا [ 12 \ 21 ] .

ففي هذه السورة نفي أخص ، فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة وهي سورة [ ص: 151 ] الإخلاص . والتي تعدل ثلث القرآن لاختصاصها بحق الله تعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية ، ونفي الولادة والولد ، ونفي الكفء ، وكلها صفات انفراد لله سبحانه .

وقد جاء فيها النص الصريح بعدم الولادة ، وأنه سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ، فهي أخص من تلك ، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعا بدون شك ولا نزاع ولم يؤثر فيها أي خلاف .

ولكن غير المسلمين لم يسلموا بذلك ، فاليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، والمشركون قالوا : الملائكة بنات الله .

فاتفقوا على ادعاء الولد لله ، ولم يدع أحد أنه سبحانه مولود .

وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى ، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه ، وفي هذه السورة وهي المختصة بصفات الله ، لم يأت التنويه فيها عن المانع من اتخاذ الله للولد ، ومن كونه سبحانه لم يولد .

ولما كان بيان المانع أو الموجب من منهج هذا الكتاب ، إذا كان يوجد للحكم موجب أو مانع ولم تتقدم الإشارة إلى ذلك ، فيما تقدم من كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مع أنه رحمه الله ، قد تكلم على آيات الأسماء والصفات جملة وتفصيلا ، بما يكفي ويشفي .

ولكن جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلا مع الإشعار بالدليل العقلي ، ولذا لزم التنويه عليه ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [ 2 \ 116 - 117 ] .

فهذا نص صريح فيما قالوه : اتخذ الله ولدا .

[ ص: 152 ] ونص صريح في تنزيه الله سبحانه وتسبيحه عما قالوا .

ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم : بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ، ففيه بيان المانع عقلا من اتخاذ الولد بما يلزم الخصم ، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون بارا بوالده ، وأن ينتفع الوالد بولده . كما في قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ 18 \ 46 ] ، أو يكون الولد وارثا لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 5 - 6 ] .

والله سبحانه وتعالى حي باق يرث ولا يورث كما قال تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك الآية [ 55 \ 26 - 27 ] .

وقوله : ولله ميراث السماوات والأرض [ 3 \ 180 ] .

فإذا كان لله سبحانه وتعالى كل ما في السماوات والأرض في قنوت وامتثال طوعا أو كرها ، كما قال تعالى : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 92 - 93 ] .

فهو سبحانه وتعالى ليس في حاجة إلى الولد لغناه عنه .

ثم بين سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع في قوله تعالى : بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [ 2 \ 117 ] .

وهذا واضح في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى .

وقد تمدح سبحانه في قوله : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [ 17 \ 111 ] .

أما أنه لم يولد . فلم يدع أحد عليه ذلك ; لأنه ممتنع عقلا ، بدليل الممانعة المعروف وهو كالآتي :

لو توقف وجوده سبحانه على أن يولد لكان في وجوده محتاجا إلى من يوجده ، ثم يكون من يلده في حاجة إلى والد ، وهكذا يأتي الدور والتسلسل وهذا باطل .

[ ص: 153 ] وكذلك فإن الحاجة إلى الولد بنفيها معنى الصمدية المتقدم ذكره ، ولو كان له والد لكان الوالد أسبق وأحق ، تعالى الله عن ذلك .

وقد يقال : من جانب الممانعة العقلية لو افترض على حد قوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] .

فنقول على هذا الافتراض : لو كان له ولد فما مبدأ وجود هذا الولد وما مصيره ؟ فإن كان حادثا فمتى حدوثه ؟ وإن كان قديما تعدد القدم ، وهذا ممنوع .

ثم إن كان باقيا تعدد البقاء ، وإن كان منتهيا فمتى انتهاؤه ؟

وإذا كان مآله إلى الانتهاء فما الحاجة إلى إيجاده مع عدم الحاجة إليه ، فانتفى اتخاذ الولد عقلا ونقلا ، كما انتفت الولادة كذلك عقلا ونقلا .

وقد أورد بعض المفسرين سؤالا في هذه الآية ، وهو لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة ؟ مع أن الأصل في المشاهد أن يولد ثم يلد ؟

وأجاب بأنه من تقديم الأهم لأنه رد على النصارى في قولهم : عيسى ابن الله ، وعلى اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، وعلى قول المشركين : الملائكة بنات الله ، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه مولود لأحد ، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى . ا هـ .

كما قال تعالى : كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 5 ] .

وقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا [ 19 \ 88 - 91 ] .

فلشناعة هذه الفرية قدم ذكرها ، ثم الرد على عدم إمكانها بقوله : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 92 - 93 ] .

وقد قدمنا دليل المنع عقلا ونقلا .

[ ص: 154 ] وهنا سؤال أيضا ، وهو إذا كان ادعاء الولد قد وقع ، وجاء الرد عليه : فإن ادعاء الولادة لم يقع ، فلماذا ذكر نفيه مع عدم ادعائه ؟

والجواب والله تعالى أعلم : أن من جوز الولادة له وأن يكون له ولد ، فقد يجوز الولادة عليه ، وأن يكون مولودا فجاء نفيها تتمة للنفي والتنزيه ، كما في حديث البحر ، كان السؤال عن الوضوء من مائه فقط ، فجاء الجواب عن مائه وميتته ; لأن ما احتمل السؤال في مائه يحتمل الاشتباه في ميتته . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية