صفحة جزء
قوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء الآية .

هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات ، وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 ] .

والجواب عن هذا ، أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين ، وهذه الموتة هي التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم .

وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم : " بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع عليك الله موتتين ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها " ، وقال : " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات " ، واستدل على ذلك بالقرآن ، ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرءان ، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا .

ما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله : ولكن لا تشعرون [ 2 \ 154 ] ، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي [ ص: 217 ] إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك .

وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، وأن الله وكل ملائكة يبلغونه سلام أمته ، فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم ، مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء ، فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق .

كما قال في جنس ذلك : ولكن لا تشعرون ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ، ولما جاز دفنه ولا نصب خليفة غيره ، ولا قتل عثمان ولا اختلف أصحابه ولا جرى على عائشة ما جرى ، ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول ، وميراث الجد والإخوة ، ونحو ذلك .

وإذا صرح القرءان بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى : بل أحياء ، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله : ولكن لا تشعرون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده ، وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة ، عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا ، ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم ، فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ، ويعقل المعاني ، والله تعالى أعلم .

قال ابن القيم في كتاب الروح ما نصه : ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طري مطرا ، وقد سأله الصحابة : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ولو لم يكن جسده في ضريحه ، لما أجاب بهذا الجواب .

وقد صح عنه أن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام .

وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال : هكذا نبعث ، هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء .

وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة ، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه ، وتعلق به بحيث [ ص: 218 ] يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه ، وهي في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان . انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه . وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا ، قال تعالى : بل أحياء ولكن لا تشعرون والعلم عند الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية