صفحة جزء
قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية .

هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .

وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [ 4 \ 157 ] ، وقوله : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته الآية [ 4 \ 159 ] .

على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين وأبو مالك والحسن وقتادة وابن . . . . . . وأبو هريرة ، ودلت على صدقه الأحاديث المتواترة ، واختاره ابن جرير وجزم ابن كثير ، بأنه الحق من أن قوله : " قبل موته " أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .

والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :

الأول : أن قوله تعالى : " متوفيك " لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى ، وأما [ ص: 232 ] عطفه : " ورافعك " إلى قوله : " متوفيك " ، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .

وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق . خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .

وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .

وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي ، حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .

وقوله صلى الله عليه وسلم : ابدأ بما بدأ الله به يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب ، وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية فكذلك لا تقتضي المنع منهما ، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 158 ] . بدليل الحديث المتقدم ، وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان :


هجوت محمدا وأجبت عنه

على رواية الواو وقد يراد بها المعية كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] ، وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] ، ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .

الوجه الثاني : أن معنى " متوفيك " أي : منيمك " ورافعك إلي " ، أي : في تلك النومة .

وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] .

وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا . . . . . الحديث .

[ ص: 233 ] الوجه الثالث : إن " متوفيك " اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه ، إذا قبضه إليه ، فيكون معنى " متوفيك " على هذا قابضك منهم إلي حيا .

وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ، ثم أحياه ، فالظاهر أنه من الإسرائيليات ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها .

التالي السابق


الخدمات العلمية