صفحة جزء
منهجه العلمي في الدراسة :

وقبل إيراد المنهج العلمي له رحمه الله في دراسته ، نلم بالمنهج العام السائد في بلاده لكافة طلبة العلم وطريقة تحصيله .

تعتبر طريقة الدراسة في تلك البلاد جزءا من حياة البوادي حلا وارتحالا . وإذا أقام أحد المشايخ في مكان توافد عليه الطلاب للدراسة عليه ومكث حتى يأخذوا عنه ، وقد يقيم بصفة دائمة لدوام الدراسة عليه ، ويقال له " المرابط " نظرا لإقامته الدائمة لنشر العلم .

[ ص: 484 ] ولا يأخذ المرابط من طلابه شيئا وإن كان ذا يسار ساعد المحتاجين من طلابه ، وقد يساعد أهل ذاك المكان الغرباء من الطلاب .

فينزلون حول بيته ويبنون لهم خياما أو مساكن مؤقتة . ويكون لهم مجلس علم للدرس والمناقشة والاستذكار .

وقد يكون المرابط مختصا بفن واحد ، وقد يدرس عدة فنون . فإذا كان مختصا بفن واحد فإن دروسه تكون في هذا الفن موزعة في عدة أماكن منه بحسب مجموعات الطلاب ، فقد تكون مجموعة في البداية منه ، ومجموعة في النهاية وأخرى في أثنائه وهكذا . فتتقدم كل مجموعة على حدة فتدرس على الشيخ ، ثم تأتي المجموعة الأخرى وهكذا .

وإذا كان يدرس عدة فنون ، فإنه يقسم طلاب كل فن على النحو المتقدم .

إفراد الفنون : ولا يحق لطالب أن يجمع بين فنين في وقت واحد ، بل يدرس فنا حتى يكمله كالنحو مثلا ، ثم يبدأ في البلاغة حتى يكلمها . وهكذا يبدأ مثلا في الفقه حتى يفرغ منه ثم يبدأ في الأصول حتى يكمله . سواء درسها على عدة مشايخ أو على شيخ واحد .

طريقة الدراسة اليومية : يبدأ الطالب بكتابة المتن في اللوح الخشبي فيكتب قدر ما يستطيع حفظه ، ثم يمحوه ، ثم يكتب قدرا آخر حتى يحفظ مقرأ من الفن حسب التقسيم المعهود . فمثلا النحو ، تعتبر الألفية أربعة مقارئ ، ويعتبر متن خليل في الفقه نحوا من ذلك .

فإذا حفظ الطالب مقرأ من الفن تقدم للدراسة فيشرحه له الشيخ شرحا وافيا بقدر ما عنده من تحصيل ، دون أن يفتح كتابا ، أو يحضر في مرجع ثم يقوم هؤلاء للاستذكار فيما بينهم ومناقشة ما قاله الشيخ ، وقد يأخذون بعض الشراح لمقابلته على ما سمعوه أو يرجعون إلى بعض الحواشي ، ولا يجتازون ذاك المكان من الدرس حتى يروا أنهم قد حصلوا كل ما فيه . وليس عليهم من سرعة أو إنهاء كتاب بقدر ما عليهم من فهم وتحصيل ما في الباب ، وقد ذكروا عن بعض الطلاب ممن عرفوا بالذكاء والقدرة على التحصيل ، أنه كان لا يزيد في متن خليل على سطرين فقط . فقيل له لم لا تزيد وأنت قادر على [ ص: 485 ] التحصيل فقال : لأنني عجلان لأعود إلى أهلي ، فقالوا له : إن العجلان يزيد في حصته ، فقال أريد أن أتقن ما أقرأ حتى لا أحتاج إلى إعادة دراسته فأتأخر .

الحياة الدراسية :

دراسة الشيخ رحمه الله : على هذا المنهج كانت دراسة الشيخ رحمه الله ، إلا أنه تميز ببعض الأمور ، قل أن كانت لغيره ، نوجز منها كالآتي :

1 - في مبدأ دراسته : تقدم أنه أتيح له في بادئ دراسته ما لم يتح لغيره حيث كان بيت أخواله مدرسته الأولى ، فلم يرحل في بادئ أمره للطلب ، وكان وحيد والديه ، فكان في مكان التدلل والعناية .

2 - قال رحمه الله : كنت أميل إلى اللعب أكثر من الدراسة حتى حفظت الحروف الهجائية وبدأوا يقرئونني إياها بالحركات ، با فتحة با ، بي كسرة بي ، بو ضمة بو ، وهكذا ت د ث . فقلت لهم أو كل الحروف هكذا ؟ قالوا : نعم . فقلت : كفى إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريق كي يتركونني فقالوا : اقرأها ، فقرأت بثلاثة حروف أو أربعة وتنقلت إلى آخرها بهذه الطريقة ، فعرفوا أني فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني . ومن ثم حببت إلي القراءة .

3 - وقال رحمه الله : ولما حفظت القرءان ، وأخذت الرسم العثماني ، وتفوقت فيه على الأقران عنيت بي والدتي وأخوالي أشد عناية ، وعزموا على توجيهي للدراسة في بقية الفنون . فجهزتني والدتي بجملين أحدهما عليه مركبي وكتبي ، والآخر عليه نفقتي وزادي ، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات ، وقد هيأت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب وملابس كأحسن ما تكون فرحا بي وترغيبا لي في طلب العلم وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل .

تقوم الحياة الدراسية على أساس منع الكلفة وتمام الألفة سواء بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين شيخهم مع كمال الأدب ووقار الحشمة . وقد تتخللها الطرف الأدبية والمحاورات الشعرية ، ومن ذلك ما حدثنيه رحمه الله قال : قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل ، فسأل عني من أكون ، وكان في ملأ من تلامذته فقلت مرتجلا :

[ ص: 486 ]

هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا     رمت به همة علياء نحوكم
إذ شام برق علوم نوره اشتعلا     فجاء يرجو ركاما من سحائبه
تكسو لسان الفتى أزهاره حللا     إذ ضاق ذرعا بجهل النحو ثم أبا
ألا يميز شكل العين من فعلا     قد أتى اليوم صبا مولعا كلفا
بالحمد لله لا أبغي له بدلا

يريد دراسة لامية الأفعال .

وقد مضى رحمه الله في طلب العلم قدما وقد ألزمه بعض مشايخه بالقران . أي أن يقرن بين كل فنين حرصا على سرعة تحصيله وتفرسا له في القدرة على ذلك ، فانصرف بهمة عالية في درس وتحصيل .

وقد خاطبه بعض أقرانه في أمر الزواج فقال في ذلك ، وفي الحث على طلب العلم :


دعاني الناصحون إلى النكاح     غداة تزوجت بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دل     خلوب اللحظ جائلة الوشاح
تبسم عن نوشرة رقاق     يمج الراح بالماء القراح
كأن لحاظها رشقات نبل     تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظ     لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلا كميا ذا ولاحي     ضعيفات الجفون بلا سلاح
فقلت لهم دعوني إن قلبي     من العي الصراح اليوم صاحي
ولي شغل بأبكار عذارى     كأن وجوهها ضوء الصباح
أراها في المهارق لابسات     براقع من معانيها الصحاح
أبيت مفكرا فيها فتضحى     لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبرا عليها     وما كان الحريم بمستباح

نعم ، إنه كان يبيت في طلب العلم مفكرا وباحثا حتى يذلل الصعاب ، وقد طابق القول العمل .

حدثني رحمه الله قال : جئت للشيخ في قراءتي عليه فشرح لي كما كان يشرح ، [ ص: 487 ] ولكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودت ، ولم يرو لي ظمئي . وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح بعض المشكل وكان الوقت ظهرا فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر ، فلم أفرغ من حاجتي فعاودت حتى المغرب فلم أنته أيضا ، فأوقد لي خادمي أعوادا من الحطب أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب ، وواصلت المطالعة وأتناول الشاهي الأخضر كلما مللت أو كسلت والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام وإلى أن ارتفع النهار وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي ، ووجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم فتركت المطالعة ونمت ، وأوصيت خادمي أن لا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم اكتفاء بما حصلت عليه واستراحة من عناء سهر البارحة .


فقد بات مفكرا فيها فأضحت     لفهم الفدم خافضة الجناح

وإن هذا لدرس لأبنائه ومنهج لطلاب العلم في الصبر والدأب والمثابرة . وقد نفعني الله بهذه الحادثة في دراستي وتدريسي وخاصة في صورة مشابهة في الفرائض لم أكن درستها على أحد وكان الاختبار في المقروء لا في المقرر .

وتلك هي آفة الدراسة النظامية اليوم وكنت كلما ضجرت في تحقيقها ، تذكرت قصته رحمه الله فصبرت حتى حصلتها ولله الحمد والمنة . وكان من بعد الظهر إلى هزيع من الليل . ولكن كم كانت لذتي وارتياحي .

ومع هذه الشاعرية الرقراقة والمعاني العذاب الفياضة والأسلوب السهل الجزل ، فقد كان يتباعد رحمه الله عن قول الشعر مع وفرة حفظه إياه ، وله في ذلك أبيات يقول فيها :


أنقذت من داء الهوى بعلاج     شيب يزين مفارقي كالتاج
قد صدني حلم الأكابر عن لمي     شفة الفتاة الطفلة المغناج
ماء الشبيبة زارع في صدرها     رمانتي روض كحق العاج
وكأنها قد أدرجت في برقع     يا ويلتاه بها شعاع سراج
وكأنما شمس الأصيل مذابة     تنساب فوق جبينها الوهاج
يعلى لموقع في خدرها     فوق الحشية ناعم الديباج
لم يبك عيني بين حي جيرة     شدوا المطي بأنسع الأحداج
[ ص: 488 ] نادت بأنغام اللحون حداتهم     فتزيلوا والليل أليل داجي
لا تصطبيني عاتق في دلها     رقت فراقت في رقاق زجاج
مخضوبة منها بنان مديرها     إذ لم تكن مقتولة بمزاج
طابت نفوس الشرب حيث أدارها     رشأ رمى بلحاظ طرف ساجي
أو ذات عود أنطقت أوتارها     بلحون قول للقلوب شواجي
فتخال رنات المثاني أحرفا     قد رددت في الحلق من مهتاج

وقد سألته رحمه الله عن تركه الشعر مع قدرته عليه وإجادته فيه فقال : لم أره من صفات الأفاضل وخشيت أن أشتهر به ، وتذكرت قول الشافعي فيما ينسب إليه :


ولولا الشعر بالعلماء يزري     لكنت اليوم أشعر من لبيد

لأن الشاعر يقول في كل مجال . والشعر أكذبه أعذبه فلم أكثر منه لذلك .

ومع هذا فقد كانت له رحمه الله عدة مؤلفات نظما في عدة فنون سيأتي بيانها إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية