صفحة جزء
المسألة الرابعة : أجمع العلماء على أن المحرم إذا صاد الصيد المحرم عليه ، فعليه جزاؤه ، كما هو صريح قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره [ 5 \ 95 ] .

اعلم أولا أن المراد بقوله : ومن قتله منكم متعمدا ، أنه متعمد قتله ، ذاكر إحرامه ، كما هو صريح الآية . وقول عامة العلماء .

وما فسره به مجاهد ، من أن المراد أنه متعمد لقتله ناس لإحرامه ، مستدلا بقوله تعالى بعده : ومن عاد فينتقم الله منه ، قال : لو كان ذاكرا لإحرامه ; لوجبت عليه العقوبة لأول مرة ، وقال : إن كان ذاكرا لإحرامه ، فقد بطل حجه لارتكابه محظور الإحرام ، غير صحيح ، ولا ظاهر لمخالفته ظاهر القرآن بلا دليل ; ولأن قوله تعالى : ليذوق وبال أمره ، يدل على أنه متعمد ارتكاب المحظور ، والناسي للإحرام غير متعمد محظورا .

إذا علمت ذلك ، فاعلم أن قاتل الصيد متعمدا ، عالما بإحرامه ، عليه الجزاء المذكور في الآية ، بنص القرآن العظيم ، وهو قول عامة العلماء ، خلافا لمجاهد ، ولم يذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة حكم الناسي ، والمخطئ .

والفرق بينهما : أن الناسي هو من يقصد قتل الصيد ناسيا إحرامه ، والمخطئ هو من يرمي غير الصيد ، كما لو رمى غرضا فيقتل الصيد من غير قصد لقتله .

ولا خلاف بين العلماء أنهما لا إثم عليهما ، لقوله تعالى : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به الآية [ 33 \ 5 ] ، ولما قدمنا في " صحيح مسلم " : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما [ ص: 439 ] قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، أن الله قال : قد فعلت " .

أما وجوب الجزاء عليهما فاختلف فيه العلماء .

فذهب جماعة من العلماء : منهم المالكية ، والحنفية ، والشافعية إلى وجوب الجزاء في الخطإ ، والنسيان ; لدلالة الأدلة على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد وبين غيره ، وقالوا : لا مفهوم مخالفة لقوله متعمدا ; لأنه جري على الغالب ، إذ الغالب ألا يقتل المحرم الصيد إلا عامدا ، وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " في موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]


أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب



ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى : اللاتي في حجوركم [ 4 \ 23 ] ; لجريه على الغالب ، وقال بعض من قال بهذا القول ، كالزهري : وجب الجزاء في العمد بالقرآن العظيم ، وفي الخطإ والنسيان بالسنة ، قال ابن العربي : إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس ، وعمر فنعما هي ، وما أحسنها أسوة .

واحتج أهل هذا القول : بأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضبع ، فقال : " هي صيد " ، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ ، فدل على العموم ، وقال ابن بكير من علماء المالكية : قوله سبحانه : متعمدا ، لم يرد به التجاوز عن الخطإ ، وذكر التعمد لبيان أن الصيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمدا كفارة .

وقال القرطبي في " تفسيره " : إن هذا القول بوجوب الجزاء على المخطئ ، والناسي ، والعامد ، قاله ابن عباس ، وروي عن عمر ، وطاوس ، والحسن ، وإبراهيم ، والزهري ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم .

وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي ، والمخطئ لا جزاء عليهما ، وبه قال الطبري ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين ، وسعيد بن جبير ، وأبو ثور ، وهو مذهب داود ، وروي أيضا عن ابن عباس ، وطاوس ، كما نقله عنهم القرطبي .

واحتج أهل هذا القول بأمرين :

[ ص: 440 ] الأول : مفهوم قوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا الآية ، فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك .

الثاني : أن الأصل براءة الذمة ، فمن ادعى شغلها ، فعليه الدليل .

قال مقيده - عفا الله عنه : هذا القول قوي جدا من جهة النظر والدليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية