صفحة جزء
المسألة التاسعة : اعلم أن الصيد ينقسم إلى قسمين : قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش ، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير .

وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة ، وخالف الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - الجمهور ، فقال : إن المماثلة معنوية ، وهي القيمة ، أي قيمة الصيد في المكان الذي قتله فيه ، أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله ، فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء ، أو يشتري بها طعاما ، ويطعم المساكين كل [ ص: 443 ] مسكين نصف صاع من بر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر .

واحتج أبو حنيفة - رحمه الله - بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبرا في النعامة بدنة ، وفي الحمار بقرة ، وفي الظبي شاة ; لما أوقفه على عدلين يحكمان به ; لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه ، ويختلف فيه وجه النظر .

ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم : المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها ، قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم الآية ، فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي ، ثم قال : من النعم ، فصرح ببيان جنس المثل ، ثم قال : يحكم به ذوا عدل منكم ، وضمير به راجع إلى المثل من النعم ; لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير .

ثم قال : هديا بالغ الكعبة ، والذي يتصور أن يكون هديا مثل المقتول من النعم ، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا ، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية ، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها يعيد من ظاهر الآية ، فاتضح أن المراد مثل من النعم ، وقوله : لو كان الشبه الخلقي معتبرا لما أوقفه على عدلين ؟ ، أجيب عنه : بأن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من كبر وصغر ، وما لا جنس له مما له جنس ، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص ، قاله القرطبي .

قال مقيده - عفا الله عنه : المراد بالمثلية في الآية التقريب ، وإذا فنوع المماثلة قد يكون خفيا ، لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة ، ككون الشاة مثلا للحمامة ; لمشابهتها لها في عب الماء والهدير .

وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم ، فاعلم أن قاتل الصيد مخير بينه ، وبين الإطعام ، والصيام ، كما هو صريح الآية الكريمة ; لأن " أو " حرف تخيير ، وقد قال تعالى : أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ، وعليه جمهور العلماء .

فإن اختار جزاء بالمثل من النعم ، وجب ذبحه في الحرم خاصة ; لأنه حق لمساكين الحرم ، ولا يجزئ في غيره ، كما نص عليه تعالى بقوله : هديا بالغ الكعبة ، والمراد الحرم كله ، كقوله : ثم محلها إلى البيت العتيق [ 22 \ 33 ] ، مع أن المنحر الأكبر منى ، وإن اختار الطعام ، فقال مالك : أحسن ما سمعت فيه ، أنه يقوم الصيد [ ص: 444 ] بالطعام ، فيطعم كل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما .

وقال ابن القاسم عنه : إن قوم الصيد بالدراهم ، ثم قوم الدراهم بالطعام ، أجزأه . والصواب : الأول ; فإن بقي أقل من مد تصدق به عند بعض العلماء ، وتممه مدا كاملا عند بعض آخر ، أما إذا صام ، فإنه يكمل اليوم المنكسر بلا خلاف .

وقال الشافعي : إذا اختار الإطعام ، أو الصيام ، فلا يقوم الصيد الذي له مثل ، وإنما يقوم مثله من النعم بالدراهم ، ثم تقوم الدراهم بالطعام ، فيطعم كل مسكين مدا ، أو يصوم عن كل مد يوما ، ويتمم المنكسر .

والتحقيق : أن الخيار لقاتل الصيد الذي هو دافع الجزاء .

وقال بعض العلماء : الخيار للعدلين الحكمين ، وقال بعضهم : ينبغي للمحكمين إذا حكما بالمثل ، أن يخيرا قاتل الصيد بين الثلاثة المذكورة .

وقال بعض العلماء : إذا حكما بالمثل لزمه ، والقرآن صريح في أنه لا يلزمه المثل من النعم ، إلا إذا اختاره على الإطعام والصوم ، للتخيير المنصوص عليه بحرف التخيير في الآية .

وقال بعض العلماء : هي على الترتيب ، فالواجب الهدي ، فإن لم يجد فالإطعام ، فإن لم يجد فالصوم ، ويروى هذا عن ابن عباس ، والنخعي وغيرهما ، ولا يخفى أن في هذا مخالفة لظاهر القرآن ، بلا دليل .

وقال أبو حنيفة : يصوم عن كل مدين يوما واحدا اعتبارا بفدية الأذى ، قاله القرطبي . واعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة ، أنه يصوم عدل الطعام المذكور ، ولو زاد الصيام عن شهرين ، أو ثلاثة .

وقال بعض العلماء : لا يتجاوز صيام الجزاء شهرين ; لأنهما أعلى الكفارات ، واختاره ابن العربي ، وله وجه من النظر ، ولكن ظاهر الآية يخالفه .

وقال يحيى بن عمر من المالكية : إنما يقال : كم رجلا يشبع من هذا الصيد ؟ ; فيعرف العدد ، ثم يقال : كم من الطعام يشبه هذا العدد ؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء صام عدد أمداده ، قال القرطبي : وهذا قول حسن احتاط فيه ; لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة ، فبهذا النظر يكثر الإطعام .

[ ص: 445 ] واعلم أن الأنواع الثلاثة ، واحد منها يشترط له الحرم إجماعا ، وهو الهدي كما تقدم ، وواحد لا يشترط له الحرم إجماعا ، وهو الصوم ، وواحد اختلف فيه ، وهو الإطعام ، فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يطعم إلا في الحرم ، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم في موضع إصابة الصيد ، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم حيث شاء ، وأظهرها أنه حق لمساكين الحرم ; لأنه بدل عن الهدي ، أو نظير له ، وهو حق لهم إجماعا ، كما صرح به تعالى بقوله : هديا بالغ الكعبة ، وأما الصوم فهو عبادة تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق ، فله فعلها في أي موضع شاء .

وأما إن كان الصيد لا مثل له من النعم كالعصافير ; فإنه يقوم ، ثم يعرف قدر قيمته من الطعام ، فيخرجه لكل مسكين مد ، أو يصوم عن كل مد يوما .

فتحصل أن ماله مثل من النعم يخير فيه بين ثلاثة أشياء : هي الهدي بمثله ، والإطعام ، والصيام ، وأن ما لا مثل له يخير فيه بين شيئين فقط : وهما الإطعام ، والصيام على ما ذكرنا .

واعلم أن المثل من النعم له ثلاث حالات :

الأولى : أن يكون تقدم فيه حكم من - النبي صلى الله عليه وسلم .

الثانية : أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة ، أو التابعين مثلا .

الثالثة : ألا يكون تقدم فيه حكم منه - صلى الله عليه وسلم - ولا منهم - رضي الله عنهم - فالذي حكم - صلى الله عليه وسلم - فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك ، وذلك كالضبع ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قضى فيها بكبش ، قال ابن حجر في " التلخيص " ما نصه : حديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في الضبع بكبش " أخرجه أصحاب السنن ، وابن حبان ، وأحمد ، والحاكم في " المستدرك " من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار ، عن جابر بلفظ : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع فقال : " هو صيد ، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم " ، ولفظ الحاكم : " جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع يصيبه المحرم كبشا " ، وجعله من الصيد ، وهو عند ابن ماجه ، إلا أنه لم يقل نجديا ، قال الترمذي : سألت عنه البخاري فصححه ، وكذا صححه عبد الحق وقد أعل بالوقف ، وقال البيهقي : هو حديث جيد تقوم به الحجة ، ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن عمر قال : " لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش " . الحديث ، ورواه الشافعي ، عن مالك عن أبي الزبير به موقوفا ، وصحح وقفه من [ ص: 446 ] هذا الباب الدارقطني ، ورواه الدارقطني ، والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ ، عن عطاء ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " الضبع صيد ، فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل " ، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني ، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة عنه ، وقد أعل بالإرسال .

ورواه الشافعي من طريق ابن جريج ، عن عكرمة مرسلا وقال : لا يثبت مثله لو انفرد ، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار المتقدم ، وقال البيهقي : وروي عن ابن عباس موقوفا أيضا .

قال مقيده - عفا الله عنه : قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له ، وكذلك البيهقي ، والشافعي ، وغيرهم ، والحديث إذا ثبت صحيحا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى ، كما هو الصحيح عند المحدثين ; لأن الوصل والرفع من الزيادات ، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " : [ الرجز ]


والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ



... إلخ ...

وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة ، أو ممن بعدهم ، فقال بعض العلماء : يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد ; لأن الله قال : يحكم به ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] ، وقد حكما بأن هذا مثل لهذا .

وقال بعض العلماء : لا بد من حكم عدلين من جديد ، وممن قال به مالك ، قال القرطبي : ولو اجتزأ بحكم الصحابة - رضي الله عنهم - لكان حسنا .

وروي عن مالك أيضا أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة ، وحمار الوحش ، والظبي ، والنعامة ; فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف ، وقد روي عن عمر : أنه حكم هو وعبد الرحمن بن عوف في ظبي بعنز ، أخرجه مالك ، والبيهقي وغيرهما ، وروي عن عبد الرحمن بن عوف ، وسعد - رضي الله عنهما : أنهما حكما في الظبي بتيس أعفر ، وعن ابن عباس ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية ، وابن مسعود وغيرهم أنهم قالوا : " في النعامة بدنة " ، أخرجه البيهقي وغيره ، وعن ابن عباس وغيره : أن في حمار الوحش والبقرة بقرة ، وأن في الأيل بقرة .

[ ص: 447 ] وعن جابر : أن عمر قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة ، أخرجه مالك ، والبيهقي ، وروى الأجلح بن عبد الله هذا الأثر عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحيح موقوف على عمر كما ذكره البيهقي وغيره ، وقال البيهقي : وكذلك رواه عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر ، عن عمر من قوله ، وعن ابن عباس : أنه قضى في الأرنب بعناق ، وقال : " هي تمشي على أربع ، والعناق كذلك ، وهي تأكل الشجر ، والعناق كذلك ، وهي تجتر ، والعناق كذلك " رواه البيهقي .

وعن ابن مسعود : أنه قضى في اليربوع بحفر أو جفرة ، رواه البيهقي أيضا ، وقال البيهقي : قال أبو عبيد : قال أبو زيد : الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه ، وعن شريح أنه قال : لو كان معي حكم حكمت في الثعلب بجدي ، وروي عن عطاء أنه قال : في الثعلب شاة ، وروي عن عمر ، وأربد - رضي الله - عنهما : أنهما حكما في ضب قتله أربد المذكور بجدي قد جمع الماء والشجر ، رواه البيهقي وغيره .

وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه : أنه حكم في أم حبين بجلان من الغنم ، والجلان الجدي ، ورواه البيهقي وغيره .

تنبيه

أقل ما يكون جزاء من النعم عند مالك شاة تجزئ ضحية ، فلا جزاء عنده بجفرة ، ولا عناق ، مستدلا بأن جزاء الصيد كالدية لا فرق فيها بين الصغير والكبير ، وبأن الله قال : هديا بالغ الكعبة ، فلا بد أن يكون الجزاء يصح هديا ، ففي الضب واليربوع عنده قيمتها طعاما .

قال مقيده - عفا الله عنه : قول الجمهور في جزاء الصغير بالصغير ، والكبير بالكبير ، هو الظاهر ، وهو ظاهر قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، قال ابن العربي : وهذا صحيح ، وهو اختيار علمائنا ، يعني مذهب الجمهور الذي هو اعتبار الصغر ، والكبر ، والمرض ، ونحو ذلك كسائر المتلفات .

التالي السابق


الخدمات العلمية