صفحة جزء
وهذه المسألة : تناظر فيها الإمام الشافعي ، وإسحاق بن راهويه في مسجد الخيف ، والإمام أحمد بن حنبل حاضر ، فأسكت الشافعي إسحاق بالأدلة ، بعد أن قال له : ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك ، فكنت آمر بفرك أذنيه ، أنا أقول لك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت تقول : قال طاوس ، والحسن ، وإبراهيم ، وهل لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة ؟ في كلام طويل .

ونحن نذكر إن شاء الله أدلة الجميع ، وما يقتضي الدليل رجحانه منها .

[ ص: 74 ] فحجة الشافعي رحمه الله ومن وافقه بأمور :

الأول : حديث أسامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله : أين تنزل غدا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ؟ " ، وفي بعض الروايات " من منزل " ، وفي بعضها " منزلا " ، أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب " الحج " في باب " توريث دور مكة ، وشرائها " إلخ ، وفي كتاب " المغازي " في غزوة الفتح في رمضان في باب : " أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح " ، وفي كتاب " الجهاد " في باب : " إذا أسلم قوم في دار الحرب ، ولهم مال وأرضون فهي لهم " ، وأخرجه مسلم في كتاب " الحج " في باب : " النزول بمكة للحاج وتوريث دورها " ، بثلاث روايات هي مثل روايات البخاري .

فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق عليه : " وهل ترك لنا عقيل من رباع " ، صريح في إمضائه صلى الله عليه وسلم بيع عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه تلك الرباع .

ولو كان بيعها ، وتملكها لا يصح لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا يقر على باطل بإجماع المسلمين .

الثاني : أن الله تبارك وتعالى أضاف للمهاجرين من مكة ديارهم ، وذلك يدل على أنها ملكهم في قوله : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم [ 59 \ 8 ] .

قال النووي في " شرح المهذب " : فإن قيل : قد تكون الإضافة لليد والسكنى ، لقوله تعالى : وقرن في بيوتكن [ 33 \ 33 ] .

فالجواب : أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك ، ولذلك لو قال : هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد ، ولو قال : أردت به السكنى واليد ، لم يقبل .

ونظير الآية الكريمة : ما احتج به أيضا من الإضافة في قوله : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " الحديث . وقد قدمنا أنه في " صحيح مسلم " .

الثالث : الأثر المشهور في سنن البيهقي وغيره : " أن نافع بن الحارث ، اشترى من صفوان بن أمية ، دار السجن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بأربعمائة " ، وفي رواية : " بأربعة آلاف " ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة .

وروى الزبير بن بكار والبيهقي : أن حكيم بن حزام رضي الله عنه ، باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف ، فقال له عبد الله بن الزبير : يا أبا خالد بعت مأثرة [ ص: 75 ] قريش وكريمتها ، فقال : هيهات ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلا الإسلام ، فقال : اشهدوا أنها في سبيل الله تعالى ؛ يعني الدراهم التي باعها بها .

وعقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب بقوله يعني قصيا : [ الرجز ]


واتخذ الندوة لا يخترع


في غيرها أمر ولا تدرع


جارية أو يعذر الغلام


إلا بأمره بها يرام


وباعها بعد حكيم بن حزام


وأنبوه وتصدق الهمام


سيد ناديه بكل الثمن


إذ العلى بالدين لا بالدمن

الرابع : أنها فتحت صلحا ، فبقيت على ملك أهلها ، وقد قدمنا ضعف هذا الوجه .

الخامس : القياس ; لأن أرض مكة أرض حية ليست موقوفة ، فيجوز بيعها قياسا على غيرها من الأرض .

واحتج من قال : بأن رباع مكة لا تملك ولا تباع بأدلة :

منها قوله تعالى : والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي [ 22 \ 25 ] ، قالوا : والمراد بالمسجد : جميع الحرم كله لكثرة إطلاقه عليه في النصوص ، كقوله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الآية [ 17 \ 1 ] ، وقوله : إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام الآية [ 9 \ 7 ] ، وقوله : هديا بالغ الكعبة [ 5 \ 95 ] ، مع أن المنحر الأكبر من الحرم " منى " .

ومنها قوله تعالى : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها [ 27 \ 91 ] قالوا : والمحرم لا يجوز بيعه .

ومنها : ما أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه عن عبد الله بن باباه ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مكة مناخ لا تباع رباعها ، ولا تؤاجر بيوتها " .

ومنها : ما رواه أبو حنيفة ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن أبي نجيح ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مكة حرام ، وحرام بيع رباعها ، وحرام أجر بيوتها " .

[ ص: 76 ] ومنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قلت : يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس ؟ قال : " لا ، إنما هو مناخ من سبق إليه " ، أخرجه أبو داود .

ومنها : ما رواه البيهقي ، وابن ماجه ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نضلة الكناني ، قال : كانت بيوت مكة تدعى السوائب ، لم تبع رباعها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبي بكر ، ولا عمر ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن .

ومنها : ما روي عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " منى مناخ لمن سبق " .

قال النووي في " شرح المهذب " في الجنائز ، في " باب الدفن " في هذا الحديث ، رواه أبو محمد الدارمي ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم ، بأسانيد جيدة من رواية عائشة رضي الله عنها .

قال الترمذي : هو حديث حسن .

وذكر في البيوع ، في الكلام على بيع دور مكة ، وغيرها من أرض الحرم : أن هذا الحديث صحيح .

ومنها : ما رواه عبد الرزاق بن مجاهد ، عن ابن جريج ، قال : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب ، كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها ، فكان أول من بوب داره ، سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرءا تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري ، فقال : ذلك لك إذن .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن منصور ، عن مجاهد : أن عمر بن الخطاب ، قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا ، لينزل البادي حيث يشاء . اهـ ، قاله ابن كثير : إلى غير ذلك من الأدلة .

قال مقيده عفا الله عنه : أقوى الأقوال دليلا فيما يظهر قول الشافعي ومن وافقه ، لحديث أسامة بن زيد المتفق عليه ، كما قدمنا ، وللأدلة التي قدمنا غيره ، ولأن جميع أهل مكة بقيت لهم ديارهم بعد الفتح يفعلون بها ما شاءوا من بيع ، وإجارة ، وغير ذلك .

وأجاب أهل هذا القول الصحيح عن أدلة المخالفين ; فأجابوا عن قوله : [ ص: 77 ] سواء العاكف فيه والبادي [ 22 \ 25 ] ، بأن المراد خصوص المسجد دون غيره من أرض الحرم ، بدليل التصريح بنفس المسجد في قوله : والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء الآية [ 22 \ 25 ] ، وعن قوله تعالى : هذه البلدة الذي حرمها [ 27 \ 91 ] ، بأن المراد : حرم صيدها ، وشجرها ، وخلاها ، والقتال فيها ، كما بينه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة ، ولم يذكر في شيء منها مع كثرتها النهي عن بيع دورها ، وعن حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه : بأنه ضعيف ، قال النووي في " شرح المهذب " : هو ضعيف باتفاق المحدثين ، واتفقوا على تضعيف إسماعيل ، وأبيه إبراهيم . اهـ .

وقال البيهقي في السنن الكبرى : إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف ، وأبوه غير قوي ، واختلف عليه فروي عنه هكذا ، وروي عنه عن أبيه ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا ببعض معناه ، وعن حديث عائشة رضي الله عنها ، بأنه محمول على الموات من الحرم .

قال النووي : وهو ظاهر الحديث .

وعن حديث أبي حنيفة : بأنه ضعيف من وجهين :

أحدهما : تضعيف إسناده بابن أبي زياد المذكور فيه .

والثاني : أن الصواب فيه عند الحفاظ أنه موقوف على عبد الله بن عمر ، وقالوا : رفعه وهم ، قاله : الدارقطني ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والبيهقي .

وعن حديث عثمان بن أبي سليمان بجوابين :

أحدهما : أنه منقطع ، كما قاله البيهقي .

الثاني : ما قال البيهقي أيضا ، وجماعة من الشافعية ، وغيرهم : أن المراد في الحديث : الإخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم بالإعارة تبرعا ، وجودا .

وقد أخبر من كان أعلم بشأن مكة منه عن جريان الإرث ، والبيع فيها .

وعن حديث " منى مناخ من سبق " ، بأنه محمول على مواتها ، ومواضع نزول الحجيج منها ، قاله النووي اهـ .

واعلم أن تضعيف البيهقي لحديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، وحديث [ ص: 78 ] عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نضلة تعقبه عليه محشيه صاحب " الجوهر النقي " ، بما نصه : " ذكر فيه حديثا في سنده إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، فضعف إسماعيل ، وقال عن أبيه غير قوي ، ثم أسنده من وجه آخر ، ثم قال : رفعه وهم ، والصحيح موقوف ، قلت : أخرج الحاكم في " المستدرك " هذا الحديث من الوجهين اللذين ذكرهما البيهقي ، ثم صحح الأول ، وجعل الثاني شاهدا عليه ، ثم ذكر البيهقي في آخره حديثا عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة ، ثم قال : هذا منقطع .

قلت : هذا الحديث أخرجه ابن ماجه بسند على شرط مسلم ، وأخرجه الدارقطني وغيره ، وعلقمة هذا صحابي ، كذا ذكره علماء هذا الشأن ، وإذا قال الصحابي مثل هذا الكلام ، كان مرفوعا على ما عرف به ، وفيه تصريح عثمان بالسماع عن علقمة ، فمن أين الانقطاع ؟ اهـ كلام صاحب " الجوهر النقي " .

قال مقيده عفا الله عنه : لا يخفى سقوط اعتراض ابن التركماني هذا على الحافظ البيهقي ، في تضعيفه الحديثين المذكورين .

أما في الأول : فلأن تصحيح الحاكم رحمه الله لحديث ضعيف لا يصيره صحيحا .

وكم من حديث ضعيف صححه الحاكم رحمه الله ، وتساهله - رحمه الله - في التصحيح معروف عند علماء الحديث ، وإبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي قد يكون للمناقشة في تضعيف الحديث به وجه ; لأن بعض العلماء بالرجال وثقه وهو من رجال مسلم .

وقال فيه ابن حجر ، في " التقريب " : " صدوق لين الحفظ " ، أما ابنه إسماعيل فلم يختلف في أنه ضعيف ، وتضعيف الحديث به ظاهر لا مطعن فيه .

وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : ضعيف ، فتصحيح هذا الحديث لا وجه له .

وأما قوله في اعتراضه تضعيف البيهقي لحديث الثاني ، فمن أين الانقطاع - فجوابه : أن الانقطاع من حيث إن علقمة بن نضلة تابعي صغير ، وزعم الشيخ ابن التركماني ، أنه صحابي غير صحيح ، وقد قال فيه ابن حجر في " التقريب " : علقمة بن نضلة - بفتح النون وسكون المعجمة - المكي كناني .

وقيل : كندي تابعي صغير مقبول ، أخطأ من عده في الصحابة ، وإذن فوجه انقطاعه ظاهر ، فظهر أن الصواب مع الحافظ البيهقي ، والنووي وغيرهما في تضعيف [ ص: 79 ] الحديثين المذكورين .

ولا شك أن من تورع عن بيع رباع مكة ، وإيجارها خروجا من الخلاف ، أن ذلك خير له ; لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .

التالي السابق


الخدمات العلمية