صفحة جزء
المسألة التاسعة : اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير ، لا من المغانم .

ودليل ذلك : حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : دخلت على عمر ، فأتاه حاجبه يرفأ ، فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد ؟ قال : نعم ، فأذن لهم ، ثم قال : هل لك في علي ، وعباس ؟ قال : نعم ، قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، قال : أنشدكم بالله ، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ فقال : الرهط ، قد قال ذلك ، فأقبل على علي ، وعباس ، فقال : هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك ، قال عمر : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه ، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، أنشدكم بالله ، هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي ، وعباس : أنشدكما بالله ، هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ، قال عمر : فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، ثم جئتماني ، وكلمتكما واحدة ، وأمركما جميع : جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إلي اهـ .

هذا لفظ البخاري في " الصحيح " في بعض رواياته ، ومحل الشاهد من الحديث [ ص: 100 ] تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير ، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك ، وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى ، وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت من الفيء ، لا من الغنيمة .

ويدل له أيضا الحديث المتقدم " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم " ، فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم ، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ; فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء : جزئين بين المسلمين ، وجزءا نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين .

فالجواب - والله تعالى أعلم - أنه لا تعارض بين الروايتين ; لأن " فدك " ونصيبه صلى الله عليه وسلم من " خيبر " كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة ، وكذلك " بنو النضير " ، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه ، فحكم الكل واحد .

وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ، وفدك ، وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ .

فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي ، وعباس ، وأما خيبر ، وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم . و هذا لفظ البخاري في صحيحه .

وقال ابن حجر في " الفتح " : وقد ظهر بهذا أن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير ، وأما سهمه من خيبر ، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده ، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر ، وفدك ، وما فضل من ذلك جعله في المصالح ، وعمل عمر بعده بذلك ، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه ، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم ، قال : جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان ، فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم ، ويزوج أيمهم ، [ ص: 101 ] وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى ، وكانت كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر ، ثم أقطعها مروان ؛ يعني في أيام عثمان .

قال الخطابي : إنما أقطع عثمان " فدك " لمروان ; لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده ، فاستغنى عثمان عنها بأمواله ، فوصل بها بعض قرابته ، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ : " ما تركت بعد نفقة نسائي ، ومئونة عاملي فهو صدقة " .

فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما . اهـ .

واعلم أن فيء " بني النضير " تدخل فيه أموال " مخيريق " رضي الله عنه ، وكان يهوديا من " بني قينقاع " مقيما في بني النضير ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، قال لليهود : " ألا تنصرون محمدا صلى الله عليه وسلم ، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم " ، فقالوا : اليوم يوم السبت ، فقال : لا سبت ، وأخذ سيفه ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فلما حضره الموت قال : أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء ، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي " الميثب " ، " والصائفة " ، " والدلال " ، " وحسنى " ، " وبرقة " ، " والأعواف " ، " ومشربة أم إبراهيم " .

وفي رواية الزبير بن بكار " الميثر " بدل " الميثب " ، " والمعوان " عوض " الأعواف " وزاد " مشربة أم إبراهيم " الذي يقال له " مهروز " .

وسميت " مشربة أم إبراهيم " ; لأنها كانت تسكنها " مارية " ، قاله بعض أصحاب المغازي ، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي " مخيريق " المذكور من شهداء أحد ، حيث قال في سردهم : [ الرجز ]


وذو الوصايا الجم للبشير وهو مخيريق بني النضير

ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة ، خوف الإطالة المملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية