صفحة جزء
قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله أظهر الأقوال وأقربها للصواب في معنى : يكنزون [ 9 \ 34 ] في هذه الآية الكريمة ، أن المراد بكنزهم الذهب والفضة وعدم إنفاقهم لها في سبيل الله ، أنهم لا يؤدون زكاتهما .

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وأما الكنز ؟ فقال مالك : عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : هو المال الذي لا تؤدى زكاته .

وروى الثوري ، وغيره ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وقد روي هذا عن ابن عباس ، وجابر ، وأبي هريرة ، موقوفا ومرفوعا .

وقال عمر بن الخطاب نحوه : أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه ، وإن كان على وجه الأرض اهـ .

وممن روي عنه هذا القول عكرمة ، والسدي ، ولا شك أن هذا القول أصوب الأقوال ; لأن من أدى الحق الواجب في المال الذي هو الزكاة لا يكوى بالباقي إذا أمسكه ; لأن الزكاة تطهره كما قال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، ولأن المواريث ما جعلت إلا في أموال تبقى بعد مالكيها .

ومن أصرح الأدلة في ذلك ، حديث طلحة بن عبيد الله وغيره في قصة الأعرابي أخي بني سعد ، من هوازن ، وهو ضمام بن ثعلبة لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله فرض عليه الزكاة ، وقال : هل علي غيرها ، فإن النبي قال له : " لا ، إلا أن تطوع " : وقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو [ 2 \ 219 ] ، وقد قدمنا في " البقرة " تحقيقا أنه ما زاد [ ص: 117 ] على الحاجة التي لا بد منها ، وقوله : " ليس فيما دون خمسة أوسق " الحديث ; لأن صدقة نكرة في سياق النفي فهي تعم نفي كل صدقة .

وفي الآية أقوال أخر :

منها : أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية .

وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضا ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك . اهـ .

وعن علي أنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كان أكثر من ذلك فهو كنز ، ومذهب أبي ذر رضي الله عنه في هذه الآية معروف ، وهو أنه يحرم على الإنسان أن يدخر شيئا فاضلا عن نفقة عياله . اهـ . ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به ، وهو كالضروري عند عامة المسلمين .

فإن قيل : ما الجواب عما رواه الإمام أحمد ، عن علي رضي الله عنه ، قال : مات رجل من أهل الصفة ، وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان ، صلوا على صاحبكم " اهـ . وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، صدي بن عجلان ، قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كية " ، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان " ، وما روى عبد الرزاق وغيره ، عن علي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تبا للذهب ، تبا للفضة " يقولها ثلاثا ، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر رضي الله عنه : أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إن أصحابك قد شق عليهم ، وقالوا : فأي المال نتخذ ؟ فقال : " لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه " . ونحو ذلك من الأحاديث .

فالجواب - والله تعالى أعلم - أن هذا التغليظ كان أولا ثم نسخ بفرض الزكاة ، كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " : قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك .

وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانع الزكاة ، إلى أن [ ص: 118 ] قال : فكان ذلك واجبا في أول الأمر ، ثم نسخ ، ثم ذكر عن شداد بن أوس أنه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول . اهـ .

وقال بعض العلماء : هي في خصوص أهل الكتاب ، بدليل اقترانها مع قوله : إن كثيرا من الأحبار والرهبان الآية [ 9 \ 34 ] .

فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة ، وأنها في من لا يؤدي الزكاة ، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أن البيان بالقرآن إذا كان غير واف بالمقصود نتمم البيان من السنة ، من حيث إنها بيان للقرآن المبين به ، وآيات الزكاة كقوله : خذ من أموالهم صدقة الآية ، وقوله : وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] وقوله : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض [ 2 \ 267 ] ، لا تفي بالبيان فتبينه بالسنة ، وقد قال ابن خويز منداد المالكي ، تضمنت هذه الآية : زكاة العين ، وهي تجب بأربعة شروط ، حرية ، وإسلام ، وحول ، ونصاب سليم من الدين . اهـ وفي بعض هذه الشروط خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية