صفحة جزء
[ ص: 165 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة هود

الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .

اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافا كثيرا ، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحدا من تلك الأقوال ، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول ، وبالله جل وعلا نستعين :

قال بعض العلماء : هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ، كما بينا في " آل عمران " وممن روي عنه هذا القول : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود - رضي الله عنهم - وعامر الشعبي ، وسفيان الثوري ، والربيع بن خثيم ، واختاره أبو حاتم بن حبان .

وقيل : هي أسماء للسور التي افتتحت بها ، وممن قال بهذا القول : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، قال الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر . ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ، ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم [ 32 \ 1 ] السجدة ، و هل أتى على الإنسان [ 76 \ 1 ] .

ويدل له أيضا قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل ، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن :


يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم

وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلا : إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور ، وذكر أبو مخنف أنه لمدلج بن كعب السعدي ، ويقال كعب بن مدلج ، وذكر الزبير بن بكار أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر ، قال المرزباني : وهو الثبت ، وأنشد له البيت المذكور ، وقبله :


وأشعث قوام بآيات ربه     قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
[ ص: 166 ] هتكت له بالرمح جيب قميصه     فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا     عليا ومن لا يتبع الحق يندم

يذكرني حاميم . . . البيت . اهـ من " فتح الباري " .

فقوله : " يذكرني حاميم " ، بإعراب " حاميم " إعراب ما لا ينصرف فيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة .

وقيل : هي من أسماء الله تعالى ، وممن قال بهذا : سالم بن عبد الله ، والشعبي ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضا : أنها أقسام أقسم الله بها ، وهي من أسمائه ، وروي نحوه عن عكرمة .

وقيل : هي حروف ، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا . فالألف من " الم " مثلا : مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم : مفتاح اسمه مجيد ، وهكذا . ويروى هذا عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي العالية ، واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة ، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز :


قلت لها قفي فقالت لي قاف     لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف

فقوله : " قاف " أي وقفت ، وقول الآخر :


بالخير خيرات وإن شرا فا     ولا أريد الشر إلا أن تا

يعني : وإن شرا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين .

قال القرطبي : وفي الحديث " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " الحديث ، قال سفيان : هو أن يقول في اقتل : اق ، إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور ، وهي نحو ثلاثين قولا .

أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو : أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد ، وجمع من المحققين ، وحكاه القرطبي عن الفراء ، وقطرب ، ونصره الزمخشري في الكشاف .

[ ص: 167 ] قال ابن كثير : وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية ، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي ، وحكاه لي عن ابن تيمية .

ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول : أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه ، وأنه الحق الذي لا شك فيه .

وذكر ذلك بعدها دائما دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن ، وأنه حق .

قال تعالى في " البقرة " : الم [ 2 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وقال في " آل عمران " : الم [ 3 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق الآية [ 3 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأعراف " : المص [ 7 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزل إليك الآية [ 7 \ 2 ] ، وقال في سورة " يونس " : الر [ 10 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب الحكيم [ 10 \ 1 ] ، وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها ، أعني سورة " هود " الر \ [ 11 \ 1 ] 30 ، ثم قال : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وقال في " يوسف " : الر [ 12 \ 1 ] ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ 12 \ 1 ، 2 ] ، وقال في " الرعد " : المر [ 13 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق [ 13 \ 1 ] ، وقال في سورة " إبراهيم " : الر [ 14 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور الآية [ 14 \ 1 ] ، وقال في " الحجر " : الر [ 15 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ، وقال في سورة " طه " طه [ 20 \ 1 ] ، ثم قال : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ 20 \ 2 ] ، وقال في " الشعراء " : طسم [ 26 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك الآية [ 26 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " النمل " : طس [ 27 \ 2 ] ، ثم قال : تلك آيات القرآن وكتاب مبين [ 27 \ 1 ] ، وقال في " القصص " : طسم [ 28 \ 1 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون الآية [ 28 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " لقمان " الم [ 31 \ 3 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين [ 31 \ 2 ، 3 ] ، وقال في [ ص: 168 ] " السجدة " : الم [ 32 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 32 \ 2 ] ، وقال في " يس " : يس [ 36 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن الحكيم الآية [ 36 \ 2 ] ، وقال في " ص " : ص [ 38 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن ذي الذكر الآية [ 38 \ 1 ] وقال في " سورة المؤمن " : حم [ 40 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم الآية [ 40 \ 2 ] .

وقال في " فصلت " : حم [ 41 \ 2 ] ، ثم قال تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون الآية [ 42 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الشورى : " حم عسق [ 42 \ 1 ، 2 ] ، ثم قال : كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الآية [ 42 \ 3 ] ، وقال في " الزخرف " : حم [ 43 \ 3 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا الآية [ 43 \ 2 ، 3 ] وقال في " الدخان " : حم [ 44 \ 1 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة الآية [ 44 \ 2 ، 3 ] وقال في " الجاثية " : حم [ 45 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين [ 45 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأحقاف " حم [ 46 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الآية [ 46 \ 2 ، 3 ] ، وقال في سورة " ق " : ق [ 50 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن المجيد الآية [ 50 \ 1 ] .

وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا .

وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ; لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبا ، والبقرة وآل عمران مدنيتان ، والغالب له الحكم ، واخترنا لبيان ذلك سورة هود ; لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح ; لأن قوله تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، بعد قوله : الر [ 11 \ 1 ] واضح جدا فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية