صفحة جزء
قوله تعالى : إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين .

الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي .

ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب . فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، وقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] ، أي لست عالما بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي ، فهداك إليها وعلمكها بما أوحى إليك من هذا القرآن العظيم ، ومنه بهذا المعنى قول الشاعر :


وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم

يعني أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلا وهو لا يبغي بها بدلا .

وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين ; إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا ، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة ، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به ، حيث آثر اثنين على عشرة ، مع أن العشرة أكثر نفعا له ، وأقدر على القيام بشئونه وتدبير أموره .

واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين :

أحدهما الضلال في الدين ، أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، وهذا أشهر معانيه في القرآن ، ومنه بهذا المعنى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 62 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

الثاني إطلاق الضلال بمعنى الهلاك ، والغيبة ، من قول العرب : ضل السمن في [ ص: 204 ] الطعام ، إذا غاب فيه وهلك فيه ، ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالا ; لأنه تغييب في الأرض يئول إلى استهلاك عظام الميت فيها ; لأنها تصير رميما وتمتزج بالأرض ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا في الأرض الآية [ 32 \ 10 ] .

ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 7 \ 53 ] ، أي : غاب واضمحل .

ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان :


فآب مضلوه بعين جلية     وغودر بالجولان حزم ونائل

فقوله : مضلوه ، يعني دافنيه ، وقوله : بعين جلية ، أي : بخبر يقين ، والجولان : جبل دفن عنده المذكور .

ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل :


كنت القذى في موج أكدر     مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا

وقول الآخر :


ألم تسأل فتخبرك الديار     عن الحي المضلل أين ساروا



التالي السابق


الخدمات العلمية