صفحة جزء
قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم الآية .

اختلف العلماء في معنى هذه الآية الكريمة ، فقال بعض العلماء معناها أن أولئك الكفار جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ; ليعضوا عليها غيظا وحنقا لما جاءت به الرسل ; إذ كان فيه تسفيه أحلامهم ، وشتم أصنامهم ، وممن قال بهذا القول عبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير ، واستدل له بقوله تعالى : وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ الآية [ 3 \ 119 ] ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب ومنه قول الشاعر :


تردون في فيه غش الحسود حتى يعض على الأكف

يعني : أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه ، قال القرطبي : ومنه قول الآخر أيضا :


قد أفنى أنامله أزمه     فأضحى يعض علي الوظيفا

أي أفنى أنامله عضا ، وقال الراجز :


لو أن سلمى أبصرت تخددي     ودقة بعظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي     عضت من الوجد بأطراف اليد

وفي الآية الكريمة أقوال غير هذا ، منها : أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم من العجب . ويروى عن ابن عباس . ومنها : أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم : أنا رسول الله إليكم ، أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له وردا لقوله . ويروى هذا عن أبي صالح ، ومنها : أن معنى الآية أنهم ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم ، فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار ، وعلى هذا القول فـ " في " بمعنى الباء . ويروى هذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، قال ابن جرير : وتوجيهه أن " في " هنا بمعنى الباء ، قال : وقد سمع من العرب : أدخلك الله بالجنة ، يعنون : في الجنة ، وقال الشاعر :

[ ص: 243 ]

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه     ولكنني عن سنبس لست أرغب

يريد وأرغب بها : قال ابن كثير : ويؤيد هذا القول تفسير ذلك بتمام الكلام ، وهو قوله تعالى : وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .

قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر عندي خلاف ما استظهره ابن كثير رحمه الله تعالى ; لأن العطف بالواو يقتضي مغايرة ما بعده لما قبله ، فيدل على أن المراد بقوله : فردوا أيديهم الآية غير التصريح بالتكذيب بالأفواه ، والعلم عند الله تعالى . وقيل : المعنى أن الكفار جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم ، وعليه فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل ، ويروى هذا عن الحسن ، وقيل : جعل الكفار أيدي الرسل على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، ويروى هذا عن مقاتل ، وقيل : رد الرسل أيدي الكفار في أفواههم ، وقيل غير ذلك ، فقد رأيت الأقوال وما يشهد له القرآن منها ، والعلم عند الله تعالى .

تنبيه

جمع الفم مكسرا على أفواه يدل على أن أصله فوه ، فحذفت الفاء والواو وعوضت عنهما الميم .

التالي السابق


الخدمات العلمية