صفحة جزء
مسائل لها تعلق بهذه الآية الكريمة .

قد علمت أن الحجر المذكور في هذه الآية في قوله : ولقد كذب أصحاب الحجر الآية [ 15 \ 80 ] : هو ديار ثمود ، وأنه ورد النهي عن الصلاة في مواضع الخسف ; فبهذه المناسبة نذكر الأماكن التي نهي عن الصلاة فيها ونبين ما صح فيه النهي وما لم يصح .

والمواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها تسعة عشر موضعا ستأتي كلها .

عن زيد بن جبيرة ، عن داود بن حصين ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهى أن يصلى في سبعة مواطن : في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام وفي أعطان الإبل ، وفوق ظهر بيت الله " . رواه عبد بن حميد في مسنده ، والترمذي ، وابن ماجه . وقال الترمذي في إسناده : ليس بذاك . وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث ، عن عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . والحديث ضعيف لا تقوم به حجة ; لأن الإسناد الأول فيه زيد بن جبيرة وهو متروك ، قال فيه ابن حجر في [ ص: 295 ] التقريب : متروك . وقال في تهذيب التهذيب : قال ابن معين : هو لا شيء . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال في موضع آخر : متروك الحديث . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، منكر الحديث جدا ، متروك الحديث لا يكتب حديثه . وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد . قلت : وقال الساجي : حدث عن داود بن الحصين بحديث منكر جدا ، يعني حديث النهي عن الصلاة في سبع مواطن . وقال الفسوي : ضعيف منكر الحديث . وقال الأزدي : متروك . وقال ابن حبان : يروي المناكير عن المشاهير ; فاستحق التنكب عن روايته . وقال الحاكم : روى عن أبيه وداود بن الحصين وغيرهما المناكير . وقال الدارقطني : ضعيف . قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه ضعيف اهـ كلام ابن حجر . وأحد إسنادي ابن ماجه فيه أبو صالح كاتب الليث ، وهو كثير الغلط ، وفيه ابن عمر العمري ضعفه بعض أهل العلم وأخرج له مسلم . وقال ابن أبي حاتم في العلل : هما جميعا - يعني الحديثين - واهيان . وصحح الحديث المذكور ابن السكن وإمام الحرمين .

اعلم أولا أن المواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها ، هي السبعة المذكورة ، والصلاة إلى المقبرة وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة ، والكنيسة والبيعة ، وإلى التماثيل ، وفي دار العذاب ، وفي المكان المغصوب ، والصلاة إلى النائم ، والمتحدث ، وفي بطن الوادي ، وفي مسجد الضرار ، والصلاة إلى التنور ، فالمجموع تسعة عشر موضعا . وسنبين أدلة النهي عنها مفصلة - إن شاء الله تعالى - أما في مواضع الخسف والعذاب فقد تقدم حكم ذلك قريبا .

وأما الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبر : فكلاهما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عنه . أما الصلاة في المقابر : فقد وردت أحاديث صحيحة في النهي عنها ، منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ، يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره - صلى الله عليه وسلم - غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا . وفي الصحيحين أيضا نحوه عن أبي هريرة ، وقد ثبت في الصحيح أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وفي بعض الروايات المتفق عليها : " لعن الله اليهود والنصارى " ، وفي بعض الروايات الصحيحة الاقتصار على اليهود . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلعن إلا على فعل حرام شديد الحرمة . وعن جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي - رضي الله عنه - ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو [ ص: 296 ] يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ; فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . إلا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " . أخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ ، رواه النسائي أيضا .

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ، ولا تتخذوها قبورا " أخرجه الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، إلا ابن ماجه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : " ولا تتخذوها قبورا " دليل على أن القبور ليست محل صلاة ، وقال بعض العلماء : يحتمل أن يكون معنى الحديث : صلوا ولا تكونوا كالأموات في قبورهم ; فإنهم لا يصلون . وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا : " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " . ورواه ابن أبي حاتم أيضا .

والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة لا مطعن فيها ، وهي تدل دلالة واضحة على تحريم الصلاة في المقبرة ; لأن كل موضع صلي فيه يطلق عليه اسم المسجد ; لأن المسجد في اللغة مكان السجود ، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " . الحديث . أي : كل مكان منها تجوز الصلاة فيه . وظاهر النصوص المذكورة العموم ، سواء نبشت المقبرة واختلط ترابها بصديد الأموات أو لم تنبش ; لأن علة النهي ليست بنجاسة المقابر كما يقوله الشافعية ; بدليل اللعن الوارد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من اتخذ قبور الأنبياء مساجد . ومعلوم أن قبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليست نجسة ، فالعلة للنهي سد الذريعة ; لأنهم إذا عبدوا الله عند القبور آل بهم الأمر إلى عبادة القبور .

فالظاهر من النصوص المذكورة : منع الصلاة عند المقابر مطلقا ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وفي صحتها عنده روايتان وإن تحققت طهارتها . وذهب مالك : إلى أن الصلاة فيها مكروهة . وذهب الشافعية : إلى أنها إذا كانت نجسة لاختلاط أرضها بصديد الأموات لأجل النبش ; فالصلاة فيها باطلة ، وإن كانت لم تنبش ; فالصلاة فيها مكروهة عندهم . وذكر النووي عن ابن المنذر : أنه قال : روينا عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، والنخعي ، أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة . قال : ولم يكرهها أبو هريرة ، وواثلة بن الأسقع ، والحسن البصري ، ونقل صاحب الحاوي عن داود : أنه قال : تصح الصلاة وإن تحقق نبشها . وذكر ابن حزم النهي عن الصلاة في المقبرة عن خمسة من الصحابة وهم : عمر ، وعلي ، وأبو هريرة ، وأنس [ ص: 297 ] وابن عباس . وقال : ما نعلم لهم مخالفا ، وحكاه عن جماعة من التابعين : إبراهيم النخعي ، ونافع بن جبير بن مطعم ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وخيثمة ، وغيرهم . وقد حكى الخطابي " في معالم السنن " عن عبد الله بن عمر : أنه رخص في الصلاة في المقبرة . وحكي أيضا عن الحسن : أنه صلى في المقبرة .

وعن ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أكان ابن عمر يكره أن يصلى وسط القبور ؟ قال : لقد صلينا على عائشة ، وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة - رضي الله عنه - ، وحضر ذلك عبد الله بن عمر . رواه البيهقي وغيره . وممن كره الصلاة في المقبرة : أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . واحتج من قال بجواز الصلاة في المقبرة : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المسكينة السوداء بالمقبرة . وسيأتي قريبا - إن شاء الله - حكم الصلاة إلى جهة القبر .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي قول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ; لأن النصوص صريحة في النهي عن الصلاة في المقابر ، ولعن من اتخذ المساجد عليها ، وهي ظاهرة جدا في التحريم . أما البطلان فمحتمل ; لأن النهي يقتضي الفساد لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . والصلاة في المقابر منهي عنها ، فليست من أمرنا فهي رد . ويحتمل أن يقال : الصلاة من أمرنا فليست ردا ، وكونها في المكان المنهي عنه هو الذي ليس من أمرنا .

كما علم الخلاف بين العلماء في كل منهي عنه له جهتان : إحداهما مأمور به منها : ككونه صلاة ، والأخرى منهي عنه منها : ككونه في موضع نهي ، أو وقت نهي ، أو أرض مغصوبة ، أو بحرير ، أو ذهب ، ونحو ذلك ; فإنهم يقولون : إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض النهي الفساد ، وإن لم تنفك عنها اقتضاه . ولكنهم عند التطبيق يختلفون ، فيقول أحدهم : الجهة هنا منفكة . ويقول الآخر : ليست منفكة كالعكس ، فيقول الحنبلي مثلا : الصلاة في الأرض المغصوبة لا يمكن أن تنفك فيها جهة الأمر عن جهة النهي ; لكون حركة أركان الصلاة كالركوع والسجود والقيام كلها يشغل المصلي به حيزا من الفراغ ليس مملوكا له ، فنفس شغله له ببدنه أثناء الصلاة حرام ، فلا يمكن أن يكون قربة بحال . فيقول المعترض كالمالكي والشافعي : الجهة منفكة هنا ; لأن هذا الفعل من حيث كونه صلاة قربة ، ومن حيث كونه غصبا حرام ، فله صلاته وعليه غصبه كالصلاة بالحرير . وإلى هذا المسألة وأقوال العلماء فيها أشار في مراقي السعود بقوله :


دخول ذي كراهة فيما أمر به بلا قيد وفصل قد حظر [ ص: 298 ]     فنفي صحة ونفي الأجر
في وقت كره للصلاة يجري     وإن يك النهي عن الأمر انفصل
فالفعل بالصحة لا الأجر اتصل     وذا إلى الجمهور ذو انتساب
وقيل بالأجر مع العقاب     وقد روي البطلان والقضاء
وقيل ذا فقط له انتفاء     مثل الصلاة بالحرير والذهب
أو في مكان الغصب والوضو انقلب     ومعطن ومنهج ومقبره
كنيسة وذي حميم مجزره



وأما الصلاة إلى القبور فإنها لا تجوز أيضا ، بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، عن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " . هذا لفظ مسلم . وفي لفظ له أيضا : " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " . والقاعدة المقررة في الأصول : أن النهي يقتضي التحريم . فأظهر الأقوال دليلا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر ; لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم . أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ، ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفا ، وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد . وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد :


وجاء في الصحيح للفساد     إن لم يجي الدليل للسداد



وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح عن الصلاة إلى القبور ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، وقال تعالى : وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقد قدمنا أن لعنه - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ القبور مساجد يدل دلالة واضحة على التحريم . واحتج من قال بصحة الصلاة في المقابر وإلى القبور بأدلة منها : عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " الحديث . قالوا : عمومه يشمل المقابر ، ويجاب عن هذا الاستدلال من وجهين :

أحدهما : أن أحاديث النهي منه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة وإلى القبر خاصة ، وحديث " جعلت لي الأرض مسجدا " عام ، والخاص يقضى به على العام كما تقرر في الأصول عند الجمهور .

والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من عموم كون الأرض مسجدا المقبرة والحمام ، فقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والشافعي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححاه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الأرض كلها مسجد [ ص: 299 ] إلا المقبرة والحمام " ، قال ابن حجر في " فتح الباري " في الكلام على قول البخاري باب " كراهية الصلاة في المقابر " في حديث أبي سعيد هذا : رواه أبو داود والترمذي ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في وصله وإرساله ، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان . وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " : صححه الحاكم في المستدرك ، وابن حزم الظاهري ، وأشار ابن دقيق العيد إلى صحته .

قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله ، وثبت موصولا من طريق صحيحة حكم بوصله ، ولا يكون الإرسال في الرواية الأخرى علة فيه ; لأن الوصل زيادة وزيادات العدل مقبولة . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :


والرفع والوصل وزيد اللفظ     مقبولة عند إمام الحفظ



من أدلة من قال : تصح الصلاة في القبور - ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة : أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ، فقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها أو عنه ، فقالوا : مات قال : " أفلا آذنتموني " ، قال : فكأنهم صغروا أمرها أو أمره . فقال : " دلوني على قبره " فدلوه فصلى عليها . ثم قال : " هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " . وليس للبخاري : " إن هذه القبور مملوءة ظلمة " إلى آخر الخبر ، قالوا : فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة إلى القبر .

ومن أدلتهم أيضا ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، قال : انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب ، فصلى عليه ، وصفوا خلفه ، وكبر أربعا .

ومن أدلتهم أيضا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر .

ومن أدلتهم ما قدمنا من الصلاة على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع ، وهذه الأدلة يستدل بها على جواز الصلاة إلى القبور وصحتها ; لا مطلق صحتها دون الجواز .

ومن أدلتهم ما ذكره البخاري تعليقا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ : " ورأى عمر أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصلي عند قبر . فقال : القبر ، القبر ، ولم يأمره بالإعادة " اهـ . وقال ابن حجر في الفتح : أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة . والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي [ ص: 300 ] نعيم شيخ البخاري . ولفظه : " بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر : القبر ، القبر ; فظن أنه يعني القمر . فلما رأى أنه يعني القبر ، جاوز القبر وصلى " وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق . منها : من طريق حميد عن أنس نحوه ، زاد فيه : فقال بعض من يليني : إنما يعني القبر فتنحيت عنه . وقوله : القبر القبر ، بالنصب فيهما على التحذير . وقوله : ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادي أنس على الصلاة . ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف . اهـ منه بلفظه .

قال مقيده - عفا الله عنه - : هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة ، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن ، وإن لم يمكن وجب الترجيح ، وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معا . أما وجه الجمع : فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت ، وليس فيها ركوع ولا سجود ، وإنما هي دعاء للميت : فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور .

ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود . ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر . نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم : " لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها " ; فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة ، فيشمل الصلاة على الميت ، فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده ، بل العكس . أما الصلاة على الميت : فهي التي تعارضت فيها الأدلة . والمقرر في الأصول : أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز ، وللمخالف أن يقول : لا يتعارض عام وخاص . فحديث : " لا تصلوا إلى القبور " عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت . والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة ، والخاص يقضى به على العام .

فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية : منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقا ; للعنه - صلى الله عليه وسلم - لمتخذي القبور مساجد ، وغير ذلك من الأدلة ، وأن الصلاة على قبر الميت - التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود - تصح ; لفعله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح ، من حديث أبي هريرة ، وابن عباس ، وأنس ، ويومئ لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد ; لأنها أماكن السجود . وصلاة الجنازة لا سجود فيها ; فموضعها ليس بمسجد لغة ; لأنه ليس موضع سجود .

التالي السابق


الخدمات العلمية