قوله تعالى : 
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كل عامل سواء كان ذكرا أو أنثى عمل عملا صالحا فإنه - جل وعلا - يقسم ليحيينه حياة طيبة ، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل . 
اعلم أولا : أن القرآن العظيم دل على أن 
العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور : 
الأول : موافقته لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله يقول : 
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا   [ 59 \ 7 ] . 
الثاني : أن يكون خالصا لله تعالى ; لأن الله - جل وعلا - يقول : 
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين   [ 98 \ 5 ] ، 
قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه   [ 39 \ 14 ، 15 ] . 
الثالث : أن يكون مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة ; لأن الله يقول : 
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن   [ 16 \ 97 ] ، فقيد ذلك بالإيمان ، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح . 
وقد أوضح - جل وعلا - هذا المفهوم في آيات كثيرة ، كقوله في عمل غير المؤمن : 
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا   [ 25 \ 23 ] ، وقوله : 
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون   [ 11 \ 16 ] ، وقوله : 
أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : 
أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف   [ 14 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . 
واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة . 
فقال قوم : لا تطيب الحياة إلا في الجنة ، فهذه الحياة الطيبة في الجنة ; لأن الحياة   
[ ص: 441 ] الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار ، والأمراض والألام والأحزان ، ونحو ذلك . وقد قال تعالى : 
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون   [ 29 \ 64 ] ، والمراد بالحيوان : الحياة . 
وقال بعض العلماء : الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا ، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه ، ويرزقه العافية والرزق الحلال ; كما قال تعالى : 
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار   [ 2 \ 201 ] . 
قال مقيده - عفا الله عنه - : وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية : حياته في الدنيا حياة طيبة ; وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة : حياته في الجنة في قوله : 
فلنحيينه حياة طيبة   [ 16 \ 97 ] ، صار قوله : 
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون   [ 16 \ 97 ] ، تكرارا معه ; لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم ، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا ; فإنه يصير المعنى : فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة ، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل ، وهو واضح . 
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيده السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - . 
قال 
ابن كثير    - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  وجماعة : أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب ، وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب    - رضي الله عنه - : أنه فسرها بالقناعة ، وكذا قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  وعكرمة  ، ووهب بن منبه - إلى أن قال - وقال 
الضحاك    : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال 
الضحاك    : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال 
الضحاك  أيضا هي العمل بالطاعة والانشراح بها . 
والصحيح : أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ; كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام 
أحمد    : حدثنا 
عبد الله بن يزيد  ، ، حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=15986سعيد بن أبي أيوب  ، حدثني 
شرحبيل بن شريك  ، عن 
أبي عبد الرحمن الحبلي  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو    : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007933قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما أتاه   " ورواه 
مسلم  من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=15303عبد الله بن يزيد المقري  به . وروى 
الترمذي   nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي  من حديث 
أبي هانئ    . عن 
أبي علي الجنبي  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16789فضالة بن عبيد    : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007934قد أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به   " ، وقال 
الترمذي    : هذا حديث صحيح . 
وقال الإمام 
أحمد    : حدثنا 
يزيد  ، حدثنا 
همام  ، عن 
يحيى  ، عن 
قتادة  ، عن 
أنس بن   [ ص: 442 ] مالك  ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007935إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة . وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا   " ، انفرد بإخراجه 
مسلم    . اه من 
ابن كثير    . 
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول : بأن الحياة الطيبة في الدنيا ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلح " يدل على ذلك ; لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى بها في الدنيا " ، يدل على ذلك أيضا . 
وابن كثير  إنما ساق الأحاديث المذكورة لينبه على أنها ترجح القول المذكور . والعلم عند الله تعالى . 
وقد تقرر في الأصول : أنه إذا 
دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس : وإليه أشار في مراقي السعود جامعا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله : 
كذاك ما قابل ذا اعتلال من التأصل والاستقلال     ومن تأسس عموم وبقا 
الإفراد والإطلاق مما ينتقى     كذاك ترتيب لإيجاب العمل 
بما له الرجحان مما يحتمل 
ومعنى كلام صاحب المراقي : أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح ، كالتأصل ، فإنه يقدم على الزيادة : نحو : 
ليس كمثله شيء   [ 42 \ 11 ] ، يحتمل كون الكاف زائدة . 
ويحتمل أنها غير زائدة . والمراد بالمثل الذات ; كقول العرب : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا ، فالمعنى : ليس كالله شيء . ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات : 
وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله   [ 46 \ 10 ] ، أي : على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له ، وقوله : 
كمن مثله في الظلمات   [ 6 \ 122 ] ، أي : كمن هو في الظلمات . وكالاستقلال ، فإنه يقدم على الإضمار ; كقوله تعالى : 
أن يقتلوا أو يصلبوا الآية [ 5 \ 33 ] ، فكثير من العلماء يضمرون قيودا غير مذكورة فيقولون : أن يقتلوا إذا قتلوا ، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا . . إلخ . 
فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقا ; لأن 
استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة   ; لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل ; كما أشرنا إليه سابقا في ( المائدة ) وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد وهو محل الشاهد ; كقوله : 
فبأي   [ ص: 443 ] آلاء ربكما تكذبان   [ 55 \ 59 ، 61 ، 63 ، 65 ، 67 ، 69 ، 71 ، 73 ، 75 ] ، في ( سورة الرحمن ) ، وقوله : 
ويل يومئذ للمكذبين   [ 77 \ 19 ، 24 ، 28 ، 34 ، 37 ، 40 ، 45 ، 47 ، 49 ] ، ( في المرسلات ) . قيل : تكرار اللفظ فيهما توكيد ، وكونه تأسيسا أرجح لما ذكرنا . فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم . قيل : لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ . وكذا يقال في ( سورة المرسلات ) فيحمل على المكذبين بما ذكر ، قيل كل لفظ إلخ . فإذا علمت ذلك فاعلم - أنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسا . وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده : 
ولنجزينهم أجرهم الآية [ 16 \ 97 ] ; لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه . 
وقال 
أبو حيان  في ( البحر ) : والظاهر من قوله تعالى : 
فلنحيينه حياة طيبة   [ 16 \ 97 ] ، أن ذلك في الدنيا ; وهو قول الجمهور . ويدل عليه قوله : 
ولنجزينهم أجرهم   [ 16 \ 97 ] ، يعني في الآخرة .