المسألة الرابعة : اعلم أنه يجوز 
نسخ الأخف بالأثقل ، والأثقل بالأخف . فمثال نسخ الأخف بالأثقل : نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى : 
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين   [ 2 \ 184 ] ، بأثقل منه ، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله : 
فمن شهد منكم الشهر فليصمه   [ 2 \ 185 ] ، ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله : 
فأمسكوهن في البيوت الآية [ 4 \ 15 ] ، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله : 
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة   [ 24 \ 2 ] ، وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتا ، وهي قوله : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " ، ومثال نسخ الأثقل بالأخف : نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله : 
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] ، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله : 
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين  [ ص: 449 ] الآية [ 8 \ 66 ] ، وكنسخ قوله تعالى : 
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله   [ 2 \ 284 ] ، بقوله : 
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها   [ 2 \ 286 ] ، فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر . وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول ، المنصوص عليه في قوله : 
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول الآية [ 2 \ 240 ] ، بأخف منه وهو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر ، المنصوص عليه في قوله : 
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا   [ 2 \ 234 ] . 
تنبيه . 
اعلم : أن في قوله - جل وعلا - : 
نأت بخير منها أو مثلها   [ 2 \ 106 ] إشكالا من جهتين : 
الأولى : أن يقال : إما أن يكون الأثقل خيرا من الأخف ; لأنه أكثر أجرا ، أو الأخف خيرا من الأثقل ; لأنه أسهل منه ، وأقرب إلى القدرة على الامتثال . وكون الأثقل خيرا يقتضي منع نسخه بالأخف ، كما أن كون الأخف خيرا يقتضي منع نسخه بالأثقل ; لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له ، لا ما هو دونه . وقد عرفت : أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر . 
الجهة الثانية : من جهتي الإشكال في قوله 
أو مثلها   [ 2 \ 106 ] ; لأنه يقال : ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله ؟ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه ؟ . 
والجواب عن الإشكال الأول : هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر ، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرا جدا والامتثال غير شديد الصعوبة ، كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم ; فإن في الصوم أجرا كثيرا كما في الحديث القدسي : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007936إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به   " ، 
والصائمون من خيار الصابرين   ; لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم ; والله يقول : 
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب   [ 39 \ 10 ] ، ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال ، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر ; فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله : " 
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر   [ 2 \ 184 ] ، وتارة تكون الخيرية في الأخف ، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال ; فإن الأخف يكون خيرا منه ; لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما   
[ ص: 450 ] لا يرضي الله ، وذلك كقوله : 
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله   [ 2 \ 284 ] ، فلو لم تنسخ المحاسبة بخطرات القلوب لكان الامتثال صعبا جدا ، شاقا على النفوس ، لا يكاد يسلم من الإخلال به ، إلا من سلمه الله تعالى - فشك أن نسخ ذلك بقوله : 
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها   [ 2 \ 286 ] ، خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق ، وهكذا . 
والجواب عن الإشكال الثاني : هو أن قوله : أو مثلها ، يراد به 
مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتهما   ; فلا ينافي أن يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجة عن ذاته يكون بها خيرا من المنسوخ ، فيكون باعتبار ذاته مماثلا للمنسوخ ، وباعتبار ما يستلزمه من الفوائد التي لا توجد في المنسوخ خيرا من المنسوخ . 
وإيضاحه : أن عامة المفسرين يمثلون لقوله : أو مثلها ، بنسخ استقبال 
بيت المقدس  باستقبال 
بيت الله الحرام    ; فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتهما متماثلان ; لأن كل واحد منهما جهة من الجهات ، وهي في حقيقة أنفسها متساوية ، فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملا على حكم خارجة عن ذاته تصيره خيرا من المنسوخ بذلك الاعتبار . فإن استقبال 
بيت الله الحرام  تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن ليست موجودة في استقبال 
بيت المقدس  ، منها : أنه يسقط به احتجاج كفار 
مكة  على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم : تزعم أنك على ملة 
إبراهيم  ولا تستقبل قبلتها ! وتسقط به حجة 
اليهود  بقولهم : تعيب ديننا وتستقبل قبلتنا ، وقبلتنا من ديننا ! وتسقط به أيضا حجة علماء 
اليهود  فإنهم عندهم في التوراة : أنه - صلى الله عليه وسلم - سوف يؤمر باستقبال 
بيت المقدس  ، ثم يؤمر بالتحول عنه إلى استقبال 
بيت الله الحرام    . فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليه بما عندهم في التوراة من أنه سيحول إلى 
بيت الله الحرام  ، والفرض أنه لم يحول . 
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكم التي هي إدحاض هذه الحجج الباطلة بقوله : 
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا   [ 2 \ 150 ] ، ثم بين الحكمة بقوله : 
لئلا يكون للناس عليكم حجة الآية [ 2 \ 150 ] ، وإسقاط هذه الحجج من 
الدواعي التي دعته - صلى الله عليه وسلم - إلى حب التحويل إلى بيت الله الحرام  المشار إليه في قوله تعالى : 
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية [ 2 \ 144 ] .