قوله تعالى : 
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، قال بعض أهل العلم : " إن هذا مثل ضربه الله 
لأهل مكة     " ، وهو رواية 
 nindex.php?page=showalam&ids=16574العوفي  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ، وإليه ذهب 
مجاهد  وقتادة  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16327وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم  ، وحكاه 
مالك  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري    - رحمهم الله - ، نقله عنهم 
ابن كثير  وغيره . 
وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية : تتفق مع صفات 
أهل مكة   المذكورة في القرآن ; فقوله عن هذه القرية : 
كانت آمنة مطمئنة   [ 16 \ 112 ] ، قال نظيره عن 
أهل مكة     ; كقوله : 
أولم نمكن لهم حرما آمنا الآية [ 28 \ 57 ] ، وقوله : 
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم الآية [ 29 \ 67 ] ، وقوله : 
وآمنهم من خوف   [ 106 \ 4 ] ، وقوله : 
ومن دخله كان آمنا   [ 3 \ 97 ] ، وقوله : 
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا الآية [ 2 \ 125 ] ، وقوله : 
يأتيها رزقها رغدا من كل مكان   [ 16 \ 112 ] ، قال نظيره عن 
أهل مكة   أيضا ; كقوله : 
يجبى إليه ثمرات كل شيء   [ 28 \ 57 ] ، وقوله : 
لإيلاف قريش إيلافهم رحلة   [ ص: 456 ] الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف   [ 106 \ 1 - 4 ] ، فإن رحلة الشتاء كانت إلى 
اليمن  ، ورحلة الصيف كانت إلى 
الشام  ، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق ; ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم : بأن أطعمهم من جوع . وقوله في دعوة 
إبراهيم    : 
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات الآية [ 2 \ 126 ] ، وقوله : 
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات الآية [ 14 \ 37 ] . 
وقوله : 
فكفرت بأنعم الله   [ 16 \ 112 ] ، ذكر نظيره عن 
أهل مكة   في آيات كثيرة ; كقوله : 
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار   [ 14 \ 28 ] . 
وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله تعالى : 
يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها الآية [ 16 \ 83 ] . 
وقوله : 
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون   [ 16 \ 112 ] ، وقع نظيره قطعا 
لأهل مكة     ; لما لجوا في الكفر والعناد ، ودعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007939اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف   " ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء ، حتى أكلوا الجيف والعلهز ( وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه ) ، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن ; وذلك الخوف من جيوش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغزواته وبعوثه وسراياه . وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات ; فقد فسر 
 nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود  آية ( الدخان ) بما يدل على ذلك . 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  في صحيحه : باب : 
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين   [ 44 \ 10 ] ، " فارتقب " [ 44 \ 10 ] : فانتظر ، حدثنا 
عبدان  ، عن 
أبي حمزة  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش  ، عن 
مسلم  ، عن 
مسروق  ، عن 
عبد الله  قال : مضى خمس : الدخان ، والروم ، والقمر ، والبطشة ، واللزام . 
يغشى الناس هذا عذاب أليم   [ 44 \ 11 ] ، حدثنا 
يحيى  ، حدثنا 
أبو معاوية    . عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش  ، عن 
مسلم  ، عن 
مسروق  قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007940قال عبد الله    : " إنما كان هذا ; لأن قريشا  لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف    ; فأصابهم قحط وجهد ، حتى أكلوا العظام . فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد . فأنزل الله تعالى : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا   [ ص: 457 ] عذاب أليم   [ 44 \ 10 ، 11 ] ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر  ، فإنها قد هلكت ! قال : " لمضر    ! إنك لجريء ! " ، فاستسقى فسقوا . فنزلت : إنكم عائدون   [ 44 \ 15 ] ، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية . فأنزل الله عز وجل : يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون   [ 44 \ 16 ] ، يعني يوم بدر    . 
باب قوله تعالى : 
ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون   [ 44 \ 12 ] ، حدثنا 
يحيى  ، حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش  ، عن 
أبي الضحى  ، عن 
مسروق  قال : دخلت 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007941على عبد الله  فقال : " إن من العلم أن تقول لما لا تعلم : الله أعلم ، إن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين   [ 38 \ 86 ] " ، إن قريشا  لما غلبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعصوا عليه ، قال : " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف    " ، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد ، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع  ، قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون   [ 44 \ 12 ] ، فقيل له : إن كشفنا عنهم عادوا ; فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا ، فانتقم الله منهم يوم بدر    ; فذلك قوله : يوم تأتي السماء بدخان مبين   [ 44 \ 10 ] ، إلى قوله جل ذكره : إنا منتقمون   [ 44 \ 16 ] ، انتهى بلفظه من صحيح 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري    . 
وفي تفسير 
 nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود    - رضي الله عنه - لهذه الآية الكريمة : ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في ( سورة النحل ) من لباس الجوع أذيقه 
أهل مكة   ، حتى أكلوا العظام ، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع . وهذا التفسير من 
 nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود    - رضي الله عنه - له حكم الرفع ; لما تقرر في علم الحديث : من أن 
تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع   ; كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله : 
تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق . 
وكما هو معروف عند أهل العلم . 
وقد قدمنا ذلك في ( سورة البقرة ) في الكلام : على قوله تعالى : 
فأتوهن من حيث أمركم الله   [ 2 \ 222 ] . 
وقد ثبت في صحيح 
مسلم  أن الدخان من أشراط الساعة . ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين : الدخان الذي مضى ، والدخان المستقبل جمعا بين الأدلة . وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى . وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه 
أبو العباس بن تيمية    - رحمه الله - في رسالته في علوم القرآن ، بأدلته .  
[ ص: 458 ] وأما الخوف المذكور في آية " النحل " فقد ذكر - جل وعلا - مثله عن 
أهل مكة   أيضا على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي : 
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم   [ 13 \ 31 ] ، فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال صاحب الدر المنثور : أخرج 
 nindex.php?page=showalam&ids=14906الفريابي   nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير  ، 
وابن مردويه  من طريق 
عكرمة  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    - رضي الله عنهما - في قوله : 
تصيبهم بما صنعوا قارعة   [ 13 \ 31 ] ، قال : السرايا ، وأخرج 
 nindex.php?page=showalam&ids=14724الطيالسي   nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير  ، 
وابن المنذر  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم  ، وأبو الشيخ ، 
وابن مردويه  ، 
والبيهقي  في الدلائل ، من طريق 
 nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير    - رضي الله عنه - ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    - رضي الله عنهما - في قوله : " 
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة   [ 13 \ 31 ] ، قال : سرية 
قارعة أو تحل قريبا من دارهم   [ 13 \ 31 ] ، قال : أنت يا 
محمد  حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح 
مكة    " ، وأخرج 
ابن مردويه  ، عن 
أبي سعيد    - رضي الله عنه - في قوله : " 
تصيبهم بما صنعوا قارعة ، قال : سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تحل : يا 
محمد  قريبا من دارهم " ، وأخرج 
 nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة   nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير  ، 
وابن المنذر  ، وأبو الشيخ ، 
والبيهقي  في الدلائل ، عن 
مجاهد    - رضي الله عنه - قال : " القارعة السرايا 
أو تحل قريبا من دارهم ، قال : 
الحديبية  ، 
حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح 
مكة    " ، وأخرج 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير  عن 
عكرمة    - رضي الله عنه - في قوله : 
ولا يزال الذين كفروا الآية ، نزلت 
بالمدينة  في سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تحل أنت يا 
محمد  قريبا من دراهم   . اه محل الغرض منه . 
فهذا التفسير المذكور في آية ( الرعد ) هذه ، والتفسير المذكور قبله في آية ( الدخان ) يدل على أن 
أهل مكة   أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع ، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف ; كما قال في القرية المذكورة : 
كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون   [ 16 \ 112 ] ، وقوله في القرية المذكورة : 
ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه   . . . الآية [ 16 \ 113 ] ، لا يخفى أنه قال مثل ذلك عن 
قريش  في آيات كثيرة ; كقوله : 
لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية [ 9 \ 128 ] ، وقوله : 
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] . 
والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جدا ; كقوله : 
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم   . . . الآية [ 38 \ 5 ]   
[ ص: 459 ] وقوله : 
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها الآية [ 25 \ 41 - 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا . 
فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال : إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلا في آية ( النحل ) هذه : هي 
مكة    . وروي عن 
حفصة  وغيرها : " أنها 
المدينة  ، قالت ذلك لما بلغها قتل 
عثمان    - رضي الله عنه - " ، وقال بعض العلماء : هي قرية غير معينة ، ضربها الله مثلا للتخويف من 
مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق ، بالكفر والطغيان   . وقال من قال بهذا القول : إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله : 
وضرب الله مثلا قرية الآية [ 16 \ 112 ] . 
قال مقيده - عفا الله عنه - : وعلى كل حال ، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل ، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان ; لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة . ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علما ; لقوله : 
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون   [ 29 \ 43 ] . 
وفي قوله في هذه الآية الكريمة : قرية ، وجهان من الإعراب . 
أحدهما : أنه يدل من قوله : مثلا ، الثاني : أن ضرب مضمن معنى جعل ، وأن : قرية ، هي المفعول الأول ، و : مثلا المفعول الثاني . وإنما أخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها المذكورة في قوله : كانت آمنة . . . ، إلخ . 
وقوله في هذه الآية الكريمة : مطمئنة ، أي : لا يزعجها خوف ; لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف . 
وقوله : رغدا ، أي : واسعا لذيذا . والأنعم قيل : جمع نعمة كشدة وأشد . أو على ترك الاعتداد بالتاء . كدرع وأدرع . أو جمع نعم كبؤس وأبؤس . كما تقدم في ( سورة الأنعام ) في الكلام على قوله : 
حتى يبلغ أشده الآية [ الآية \ 152 ] . 
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، هو أن يقال : كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله : 
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف الآية [ 16 \ 112 ] ، وروي أن 
ابن الراوندي  الزنديق قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12585لابن الأعرابي    - إمام اللغة والأدب - : هل يذاق اللباس ؟ ! يريد الطعن   
[ ص: 460 ] في قوله تعالى : 
فأذاقها الله لباس الجوع الآية ، فقال له 
 nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي    : لا بأس أيها النسناس ! هب أن 
محمدا    - صلى الله عليه وسلم - ما كان نبيا ! أما كان عربيا ؟ . 
قال مقيده - عفا الله عنه - : والجواب عن هذا السؤال ظاهر ، وهو أنه 
أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف   ; لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم ، وتحيط بها كاللباس . ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف ، أوقع عليه الإذاقة ، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة . وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) : أنه 
لا يجوز لأحد أن يقول إن في القرآن مجازا ، وأوضحنا ذلك بأدلته ، وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازا أنه أسلوب من أساليب اللغة العربية . 
وقد اختلف أهل البيان في هذه الآية ، فبعضهم يقول : فيها استعارة مجردة ; يعنون أنها جيء فيها بما يلائم المستعار له . وذلك في زعمهم أنه استعار اللباس لما غشيهم من بعض الحوادث كالجوع والخوف ، بجامع اشتماله عليهم كاشتمال اللباس على اللابس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التحقيقية ، ثم ذكر الوصف الذي هو الإذاقة ملائما للمستعار له الذي هو الجوع والخوف ; لأن إطلاق الذوق على وجدان الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة لكثرة الاستعمال . 
فيقولون : ذاق البؤس والضر ، وأذاقه غيره إياهما ; فكانت الاستعارة مجردة لذكر ما يلائم المستعار له ، الذي هو المشبه في الأصل في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة . ولو أريد ترشيح هذه الاستعارة في زعمهم لقيل : فكساها ; لأن الإتيان بما يلائم المستعار منه الذي هو المشبه به في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة يسمى " ترشيحا " ، والكسوة تلائم اللباس ، فذكرها ترشيح للاستعارة . قالوا : وإن كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من المجردة ، فتجريد الاستعارة في الآية أبلغ ; من حيث إنه روعي المستعار له الذي هو الخوف والجوع ، وبذكر الإذاقة المناسبة لذلك ليزداد الكلام وضوحا . 
وقال بعضهم : هي استعارة مبنية على استعارة ; فإنه أولا استعار لما يظهر على أبدانهم من الاصفرار والذبول والنحول اسم اللباس ، بجامع الإحاطة بالشيء والاشتمال عليه ، فصار اسم اللباس مستعارا لآثار الجوع والخوف على أبدانهم ، ثم استعار اسم الإذاقة لما يجدونه من ألم ذلك الجوع والخوف المعبر عنه باللباس ، بجامع التعرف والاختبار في كل من الذوق بالفم ، ووجود الألم من الجوع والخوف ; وعليه ففي اللباس   
[ ص: 461 ] استعارة أصلية كما ذكرنا . وفي الإذاقة المستعارة لمس ألم الجوع والخوف استعارة تبعية . 
وقد ألممنا هنا بطرف قليل من كلام البيانيين هنا ليفهم الناظر مرادهم ، مع أن التحقيق الذي لا شك فيه : أن كل ذلك لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته ، وأن العرب تطلق الإذاقة على الذوق وعلى غيره من وجود الألم واللذة ، وأنها تطلق اللباس على المعروف ، وتطلقه على غيره مما فيه معنى اللباس من الاشتمال ; كقوله : 
هن لباس لكم وأنتم لباس لهن   [ 2 \ 187 ] ، وقول 
الأعشى    : 
إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت عليه فكانت لباسا 
وكلها أساليب عربية . ولا إشكال في أنه إذا أطلق اللباس على مؤثر مؤلم يحيط بالشخص إحاطة اللباس ، فلا مانع من إيقاع الإذاقة على ذلك الألم المحيط المعبر باسم اللباس . والعلم عند الله تعالى .