صفحة جزء
قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا

الظاهر أن الخطاب في هذه الآية الكريمة متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ليشرع لأمته على لسانه إخلاص التوحيد في العبادة له جل وعلا ، لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لا يجعل مع الله إلها آخر ، وأنه لا يقعد مذموما مخذولا .

ومن الآيات الدالة دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم يوجه إليه الخطاب ، والمراد بذلك التشريع لأمته لا نفس خطابه هو صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما [ 17 \ 23 ] ; لأن معنى قوله : إما يبلغن الآية [ 17 \ 23 ] ، أي إن يبلغ عندك والداك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف ، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل ، فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل ، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم ، ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنسانا والمراد بالخطاب غيره ، ومن الأمثلة السائرة في ذلك قول الراجز ، وهو سهل بن مالك الفزاري :


إياك أعني واسمعي يا جاره



[ ص: 84 ] وسبب هذا المثل : أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائبا ، فأنزلته أخته وأكرمته ، وكانت جميلة ، فأعجبه جمالها ، فقال مخاطبا لأخرى غيرها ليسمعها هي :


يا أخت خير البدو والحضاره     كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره     إياك أعني واسمعي يا جاره



ففهمت المرأة مراده ، وأجابته بقولها :


إني أقول يا فتى فزاره     لا أبتغي الزوج ولا الدعاره
ولا فراق أهل هذي الحاره     فارحل إلى أهلك باستحاره



والظاهر أن قولها " باستحاره " أن أصله استفعال من المحاورة بمعنى رجع الكلام بينهما ، أي ارحل إلى أهلك بالمحاورة التي وقعت بيني وبينك ، وهي كلامك وجوابي له ، ولا تحصل مني على غير ذلك ! والهاء في " الاستحارة " عوض من العين الساقطة بالإعلال ، كما هو معروف في فن الصرف .

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله : لا تجعل مع الله إلها آخر ، ونحو ذلك من الآيات متوجه إلى المكلف ، ومن أساليب اللغة العربية : إفراد الخطاب مع قصد التعميم ; كقول طرفة بن العبد في معلقته :


ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا     ويأتيك بالأخبار من لم تزود



وقال الفراء ، والكسائي ، والزمخشري : ومعنى قوله : فتقعد [ 17 \ 22 ] أي : تصير . وجعل الفراء منه قول الراجز :


لا يقنع الجارية الخضاب     ولا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب     ويقعد الأير له لعاب


أي يصير له لعاب .

وحكى الكسائي : قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها . بمعنى صار . قاله أبو حيان في البحر .

ثم قال أيضا : والقعود هنا عبارة عن المكث ، أي فتمكث في الناس مذموما مخذولا ، كما تقول لمن سأل عن حال شخص : هو قاعد في أسوأ حال ; ومعناه ماكث ومقيم . سواء كان قائما أم جالسا . وقد يراد القعود حقيقة ; لأن من شأن المذموم [ ص: 85 ] المخذول أن يقعد حائرا متفكرا ، وعبر بغالب حاله وهو القعود ، وقيل : معنى فتقعد [ 17 \ 22 ] فتعجز . والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم . اه محل الغرض من كلام أبي حيان .

والمذموم هنا : هو من يلحقه الذم من الله ومن العقلاء من الناس ; حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يقدر على شيء .

والمخذول : هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر . ومنه قوله :


إن المرء ميتا بانقضاء حياته     ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا



التالي السابق


الخدمات العلمية