صفحة جزء
قوله تعالى : ( ومما رزقناهم ينفقون )

عبر في هذه الآية الكريمة " بمن " التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله . ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه ، والذي ينبغي إمساكه . ولكنه بين في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه : هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها ، وذلك كقوله : ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما ) [ 2 \ 219 ] ، والمراد بالعفو : الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور .

ومنه قوله تعالى : ( حتى عفوا ) [ 7 \ 95 ] ، أي : كثروا ، وكثرت أموالهم وأولادهم .

[ ص: 11 ] وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع . ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب



وهذا القول راجح إلى ما ذكرنا ، وبقية الأقوال ضعيفة .

وقوله تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ 17 \ 29 ] فنهاه عن البخل بقوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) ونهاه عن الإسراف بقوله : ( ولا تبسطها كل البسط ) ، فيتعين الوسط بين الأمرين ، كما بينه بقوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ 25 \ 67 ] فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير ، وبين البخل والاقتصاد . فالجود غير التبذير ، والاقتصاد غير البخل . فالمنع في محل الإعطاء مذموم . وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضا وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( ولا تبسطها كل البسط ) . وقد قال الشاعر : [ البسيط ]

لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت     يداه كالمزن حتى تخجل الديما



فإنها فلتات من وساوسه     يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما



وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك ، إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله . كقوله تعالى : ( قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ) الآية [ 2 \ 215 ] وصرح بأن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله : ( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ) الآية [ 8 \ 36 ] وقد قال الشاعر :

إن الصنيعة لا تعد صنيعة     حتى يصاب بها طريق المصنع



فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية ، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ، وذلك في قوله : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) [ 59 \ 9 ] .

[ ص: 12 ] فالظاهر في الجواب - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا ، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا . وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة ، كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب ، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم : " وابدأ بمن تعول " وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم ، فلا يجوز له ذلك ، والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة وكان واثقا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال .

وأما على القول بأن قوله تعالى : ( ومما رزقناهم ينفقون ) يعني به الزكاة ، فالأمر واضح ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية