صفحة جزء
الفرع السادس : اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلا : أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم ، كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين ، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل .

وقال أبو داود أيضا في سننه : حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي ، ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دية المعاهد نصف دية الحر " . قال أبو داود : ورواه أسامة بن زيد الليثي ، [ ص: 116 ] وعبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب مثله اه .

وقال النسائي في سننه : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى . . - وذكر كلمة معناها - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى " أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عقل الكافر نصف عقل المؤمن " .

وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن عياش ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين ، وهم اليهود والنصارى " . وأخرج نحوه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عمرو ، عن أبيه ، عن جده .

قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحديث عمرو بن شعيب هذا حسنه الترمذي ، وصححه ابن الجارود . وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال : دية أهل الذمة كدية المسلمين ; كأبي حنيفة ومن وافقه . ومن قال : إنها قدر ثلث دية المسلم . كالشافعي ومن وافقه . والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لا يحتج بها ، وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في " السنن الكبرى " ، وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج ، وهي ليس فيها شيء صحيح .

أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى : ودية مسلمة إلى أهله [ 4 \ 92 ] ، فيقال فيه : هذه دلالة اقتران ، وهي غير معتبرة عند الجمهور ، وغاية ما في الباب : أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر ، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم ، وهذا لا إشكال فيه .

أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية ، لأنها مسألة أخرى .

والأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى ، ويؤيدها : أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : " وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل " فمفهوم [ ص: 117 ] قوله " المؤمنة " أن النفس الكافرة ليست كذلك ، على أن المخالف في هذه الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، والمقرر في أصوله : أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما هو معلوم عنه . ولا يقول بحمل المطلق على المقيد ، فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر ، والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمدا فتكون ديته كدية المسلم ، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم ، لا نعلم له مستندا من كتاب ولا سنة ، والعلم عند الله تعالى .

وأما دية المجوسي : فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم ; فهي ثمانمائة درهم ، ونساؤهم على النصف من ذلك .

وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأكثر أهل العلم ; منهم عمر وعثمان ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وإسحاق .

وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه قال : ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي .

وقال النخعي ، والشعبي : ديته كدية المسلم ، وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .

والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " لا يتجه ، لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج ، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط ، بدليل أن نساءهم لا تحل ، وذبائحهم لا تؤكل اه .

وقال ابن قدامة في " المغني " : إن قول من ذكرنا من الصحابة : إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم ، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعا سكوتيا . وقد قدمنا قول من قال : إنه حجة .

وقال بعض أهل العلم : دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي ، وهو مذهب مالك . وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقا . والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية