صفحة جزء
الفرع السابع : اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية ، وبم تغلظ ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء : وهي القتل في الحرم ، وكون المقتول محرما بحج أو عمرة ، أو في الأشهر الحرم ; فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها .

[ ص: 118 ] فمن قتل محرما فعليه دية وثلث ، ومن قتل محرما في الحرم فدية وثلثان ، ومن قتل محرما في الحرم في الشهر الحرام فديتان .

وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، وروي نحوه عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم ; نقله عنهم البيهقي وغيره .

وممن روى عنه هذا القول : سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وغيرهم ; كما نقله عنهم صاحب المغني .

وقال أصحاب الشافعي رحمه الله : تغلظ الدية بالحرم ، والأشهر الحرم ، وذي الرحم المحرم ، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان .

وصفة التغليظ عند الشافعي : هي أن تجعل دية العمد في الخطأ ، ولا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلا شبه عمد ; كما فعل المدلجي بأبيه ، والجد والأم عنده كالأب .

وتغليظها عنده : هو تثليثها بكونها ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة في بطونها أولادها ، لا يبالي من أي الأسنان كانت ، ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئا .

وظاهر الأدلة أن القاتل لا يرث مطلقا من دية ولا غيرها ، سواء كان القتل عمدا أو خطأ .

وفرق المالكية في الخطأ بين الدية وغيرها ، فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة . والإطلاق أظهر من هذا التفصيل ، والله أعلم .

وقصة المدلجي : هي ما رواه مالك في الموطأ ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب : أن رجلا من بني مدلج يقال له " قتادة " حذف ابنه بالسيف ; فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات ، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب ، فذكر ذلك له ، فقال له عمر : أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك ، فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة ، وقال : أين أخو المقتول ؟ قال : هاأنذا . قال : خذها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس لقاتل شيء " .

الفرع الثامن : اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته ; كسائر ما خلفه من تركته .

[ ص: 119 ] ومن الأدلة الدالة على ذلك ، ما روي عن سعيد بن المسيب : أن عمر رضي الله عنه قال : الدية للعاقلة ، لا ترث المرأة من دية زوجها ، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه . ورواه مالك في الموطأ من رواية ابن شهاب عن عمر ، وزاد : قال ابن شهاب : وكان قتلهم أشيم خطأ . وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه . روي نحوه عن المغيرة بن شعبة وزرارة بن جري . كما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ .

ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم " رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل .

وهذا الحديث قواه ابن عبد البر ، وأعله النسائي ; قاله الشوكاني . وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي ، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه .

ومنها ما رواه البخاري في تاريخه عن قرة بن دعموص النميري قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي ، فقلت : يا رسول الله ، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها . وكان قتل في الجاهلية ، فقال : " أعطه دية أبيه " فقلت : هل لأمي فيها حق ؟ قال : " نعم " ، وكانت ديته مائة من الإبل .

وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا : قال قيس بن حفص : أنا الفضيل بن سليمان النميري قال : أنا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري قال : حدثني قرة بن دعموص ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي - إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا - وسكت عليه البخاري رحمه الله ، ورجال إسناده صالحون للاحتجاج ، إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله .

وذكر له البخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة ، وذكرا أنه سمع قرة بن دعموص ، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا .

وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله ، وهو الظاهر ; سواء كان القتل عمدا أو خطأ ، ولا يخلو ذلك من خلاف .

وروي عن علي رضي الله عنه أنها ميراث كقول الجمهور ، وعنه رواية أخرى : أن [ ص: 120 ] الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه ، وكان هذا هو رأي عمر ، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه : أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها .

وقال أبو ثور : هي ميراث ، ولكنها لا تقضي منها ديونه ، ولا تنفذ منها وصاياه . وعن أحمد رواية بذلك .

قال ابن قدامة في " المغني " : وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته ; فللموصى له بالثلث ثلث الدية ، في إحدى الروايتين .

والأخرى : ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء .

ومبنى هذا : على أن الدية ملك للميت ، أو على ملك الورثة ابتداء ، وفيه روايتان : إحداهما أنها تحدث على ملك الميت ، لأنها بدل نفسه ، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة ، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحا وليس له إسقاط حق الورثة ، ولأنها مال موروث فأشبهت سائر أمواله . والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء ; لأنها إنما تستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له ، ويخرج عن أن يكون أهلا لذلك ، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء ، ولا أعلم خلافا في أن الميت يجهز منها . اه محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله .

قال مقيده عفا الله عنه : أظهر القولين عندي : أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه ; لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته ، والميراث لا يطلق شرعا إلا على ما كان مملوكا للميت ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية