صفحة جزء
قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد

، اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ " الوصيد " ، فقيل : هو فناء للبيت ، ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، وقيل الوصيد : الباب ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . وقيل : الوصيد العتبة ، وقيل الصعيد ، والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب ، ويقال له " أصيد " أيضا ; لأن الله يقول : إنها عليهم مؤصدة [ 104 \ 8 ] ، أي مغلقة مطبقة ، وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد ، وهو الباب من أبوابها ، ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر :


تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

[ ص: 225 ] وقول ابن قيس الرقيات :


إن في القصر لو دخلنا غزالا     مصفقا مؤصدا عليه الحجاب


فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك : الإطباق والإغلاق ; لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب ، ويقال فيه أصيد ، وعلى اللغتين القراءتان في قوله : " مؤصدة " مهموزا من الأصيد . وغير مهموز من الوصيد .

ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي ، وقيل زهير :


بأرض فضاء لا يسد وصيدها     علي ومعروفي بها غير منكر



أي لا يسد بابها علي ، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي ; كقول الآخر :


ولا ترى الضب بها ينجحر



فإن قيل : كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية ، والكهف غار في جبل لا باب له ؟

فالجواب : أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه ; فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف بابا ، ومن قال : الوصيد : الفناء ، لا يخالف ما ذكرنا ; لأن فناء الكهف هو بابه ، وقد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك : أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه .

وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة : إن المراد بالكلب في هذه الآية رجل منهم لا كلب حقيقي ، واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة ، كقراءة " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ، وقراءة " وكالئهم باسط ذراعيه " .

وقوله جل وعلا : باسط ذراعيه قرينة على بطلان ذلك القول ; لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي ، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " ، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب ، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي ، وقراءة " وكالئهم " بالهمزة لا تنافي كونه كلبا ; لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم ، والكلاءة : الحفظ .

فإن قيل : ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو " باسط " في مفعوله الذي هو " ذراعيه " والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة " ال " لا يعمل إلا إذا كان واقعا في الحال أو المستقبل ؟

[ ص: 226 ] فالجواب أن الآية هنا حكاية حال ماضية ، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله تعالى : والله مخرج ما كنتم تكتمون [ 2 \ 72 ] .

واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب ، وكونه باسطا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم ، يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن . اهـ .

ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال : إني أحب الله ورسوله : " أنت مع من أحببت " متفق عليه من حديث أنس .

ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم ، كما بينه الله تعالى في سورة " الصافات " في قوله : قال قائل منهم إني كان لي قرين [ 37 \ 51 ] - إلى قوله - قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين الآية [ 37 \ 56 \ 57 ] .

وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم ، فيقول بعضهم : اسمه قطمير ، ويقول بعضهم : اسمه حمران ، إلى غير ذلك لم نطل به الكلام لعدم فائدته .

ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .

وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائما ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه .

وقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ 6 \ 145 ] حكم أكل لحم الكلب وبيعه ، وأخذ قيمته إن قتل ، وما يجوز اقتناؤه منها وما لا يجوز ، وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية