1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم
صفحة جزء
( تنبيه غافل ، وتعليم جاهل ) .

يسيء كثير من المسلمين تأويل حديثي ثوبان وغيرهما من أحاديث الفتن ، ويحملونها على ما يضرهم ، وهو ما لم يرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يرضاه لهم ، فوجب أن نبين الحق في ذلك ؛ فنقول :

إن لأحوال الأمم العامة تأثيرا عظيما في فهم أفرادها لنصوص الدين وغيرها من أقوال الحكماء والشعراء ، فهي في حال ارتقائها بالعلم والحكمة وما يثمران من العزة والقوة تكون أصح أفهاما ، وأصوب أحكاما ، وأكثر اعتبارا وادكارا ، وأحسن استفادة واستبصارا ، وفي حال فشو الغباوة والجهل ، وما ينتجان من الضعف والذل ، تكون بالضد من ذلك ، وأضرب مثلا لذلك : النصوص والحكم المنظومة والمنثورة في ذم الطمع والحرص على المال وزينة الدنيا ، وما يقابلها من تعظيم أمر الآخرة والترغيب في معالي الأمور وبذل المال في سبيل الحق . لم تكن تلك النصوص والحكم والأشعار والأمثال بصادة للأمة في طور حياتها وارتقائها عن الفتح والكسب ، وإحراز قصب السبق في جميع ميادين التنازع على السيادة وموارد الرزق ، بل كانت هي الحافزة لها إلى ذلك بقصد إعزاز الملة ، ورفع شأن الأمة ، لذلك كانوا يبذلون تلك الأموال بمنتهى السخاء في سبيل البر وأعمال الخير ، ولو حفظ المتأخرون منا ما حبسه من قبلهم من الأوقاف على جميع المصالح العامة وأنواع البر لوجدوا أن جميع ما ملكوه من الأرض كان وقفا بل وقف مرارا ; لأن الخلف الصالح صار يحول أوقاف السلف الصالح إلى ملك ، حتى كان عم والدي الشيخ النقاد الخبير السيد أحمد أبو الكمال يقول على سبيل المبالغة في هذا المعنى : في كل مائة سنة يتحول كل وقف في طرابلس الشام ملكا ، وكل ملك وقفا .

كانت تلك النصوص والحكم للأمة في تلك الحياة كالغذاء الصالح للجسم السليم ، يزيده قوة ، ويحفظ له حياته ويعوضه عن كل ما ينحل منه من الدقائق الميتة مادة حية خيرا منها ، ثم صارت في طور الضعف كالغذاء الجيد في الجسم العليل ، لا يزيده إلا ضعفا وانحلالا ; إذ صاروا [ ص: 415 ] يفهمون منها أن الكسل والخمول والتواكل والفقر والذل من مقاصد الدين ، فصاروا لا يستفيدون منها إلا ضعفا وعجزا ، ولا يزدادون مع ذلك إلا حرصا ودناءة وبخلا .

إذا تدبرت هذا المثال فاجعله مرآة لما ورد في الأحاديث النبوية من أنباء مستقبل الأمة الإسلامية ، كسعة ملكها في مشارق الأرض ومغاربها - أي بالنسبة إلى الحجاز - ثم تداعي الأمم عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، ومن تفرقها شيعا ووقوع بأسها بينها ، وغير ذلك من أنباء الفتن ، وما يكون قبل قيام الساعة من الإحداث والبدع ، واعلم أن ما أصاب الأمة الإسلامية بسوء فهمها لهذه الأحاديث - بعد فشو الجهل فيها - هو نحو مما أصابها بسوء فهمها لتلك النصوص والحكم التي أشرنا إليها في المثال . وطن جماهير المسلمين أنفسهم منذ قرون على الرضا بجميع الفتن والشرور التي أنبأت الأحاديث بوقوعها في المستقبل ، فقعدت هممهم عن القيام بما أمر الله تعالى به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودفع المكروه ، والدفاع عن الحق بقدر الاستطاعة ، معتذرين لأنفسهم بأن ذلك قدر قد ورد بوقوعه الخبر ، فلا مهرب منه ولا مفر ، كما يعتذرون لأنفسهم عن ترك مجاراة الأمم العزيزة في أسباب العزة وطرق الثروة بالنصوص والحكم التي وردت في التنفير عن الطمع والجشع وتهوين أمر شهوات الدنيا ، والترغيب في معالي الأمر وإيثار الحياة الباقية . ولا حجة لهم في شيء من ذلك ، بل لله الحجة البالغة عليهم ، وقد بسطنا ذلك مرارا في التفسير وفي غير التفسير .

وتراهم مع هذا قد تركوا السعي والعمل لما وعدوا به في الآيات والأحاديث من الخير والسيادة كما كان يسعى ويعمل له سلفهم ، ومن تلك الوعود ما لم يأت تأويله ولا بد من إتيانه ؛ لأن وعد الله مفعول لا بد منه ، كما تركوا العمل بالنصوص الآمرة بالبذل في سبيل الله ، مع ادعائهم الأخذ بما ورد في إيثار الآخرة على الدنيا أو احتجاجهم به .

وحقيقة الأمر أنهم رزئوا بالجهل والكسل وسقوط الهمة ، فهم بجهلهم يتعبون ويشقون في اتباع أهوائهم والسعي لحظوظهم الشخصية الدنيئة ، ولا يفكرون في المصالح العامة ، ولا يعقلون وجه ارتباط المنافع الخاصة بها ، بل يتركونها زاعمين أنهم قد وكلوا أمرها إلى الله وعملوا بهدي دينه فيها . بل لا يخطر في بال أحد منهم هذا الزعم إلا إذا عذله عاذل أو وبخه موبخ على تفريطه في حقوق أمته وما يجب عليه لملته ، فحينئذ يعتذرون بالأقدار ، أو بأن الآخرة لهم والدنيا للكفار ، وقد ذكرناهم بفساد شبهتهم هذه مرارا ( وما يتذكر إلا من ينيب ) ( 40 : 13 ) .

[ ص: 416 ] إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر أمته بما سيقع فيها من التفرق والشيع ، وركوب سنن أهل الكتاب في الإحداث والبدع ، وبغير ذلك من أخبار الفتن الخاصة بهم والمشتركة بينهم وبين الأمم - إلا لأجل أن يكونوا على بصيرة في مقاومة ضرها واتقاء تفاقم شرها ، ، لا لأجل أن يتعمدوا إثارة تلك الفتن والاصطلاء بنارها ، والاقتراف لأوزارها ، فمثله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كمثل الطبيب الذي يخبر المسافرين إلى أرض مجهولة لهم بما فيها من الأمراض ؛ لأجل أن يبذلوا جهدهم في اتقاء وقوعها بهم ، ثم في مداواة من يصاب بها منهم ، لا لأجل أن يجعلوا أنفسهم عرضة لها بإتيان أسبابها ، وتوطين النفس على الهلاك بترك التداوي منها . وقد كان أهل الصدر الأول يفهمون ذلك من النصوص ، كما صرحت به عائشة في حديث لعن أهل الكتاب لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ، فإنها عللته بقولها : يحذر ما صنعوا . وقد صرحت النصوص بالنهي عن التفرق والاختلاف الذي تدهور في تيهوره أهل الكتاب حتى لا نقع فيه على غرارة وجهالة فيكون شره مستطيرا ، ولا نهتدي إلى تخفيفه سبيلا ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) ( 39 : 9 ) ولو أن علماء الصحابة أو التابعين كتبوا في التفسير وشرح الحديث لبينوا لنا ذلك .

ولم يقصر المصنفون من المتقدمين والمتأخرين في شيء من علم الكتاب والسنة كما قصروا في بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سنن الله تعالى في الأمم ، والجمع بين النصوص في ذلك والحث على الاعتبار بها ، ولو عنوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام وقواعد الكلام لأفادوا الأمة ما يحفظ به دينها ودنياها ، وهو ما لا يغني عنه التوسع في دقائق مسائل النجاسة والطهارة ، والسلم والإجارة ، فإن العلم بسنن الله تعالى في عباده ، لا يعلوه إلا العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله ، بل هو منه أو من طرقه ووسائله . وقد فطن لهذا بعض حكماء العلماء ، فقال أبو حامد الغزالي في بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة من كتاب العلم في الإحياء : وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله ، وسننه في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا ، فإن هذا علم مطلوب لذاته . ثم فضل أهل هذا العلم على جميع العلماء كالمتكلمين والفقهاء ، وأيده في ذلك العز بن عبد السلام إذ استفتي فيه فأفتى بصحته . وبين الغزالي في غير هذا الفصل من فصول الباب الثاني من أبواب العلم أن هذا العلم هو الذي امتاز به عظماء الصحابة - رضي الله عنهم ، وأنه هو العلم الذي عناه عبد الله بن مسعود لما مات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقوله : مات تسعة أعشار العلم ( ورواه أبو خيثمة في كتاب العلم بلفظ : إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم ) .

[ ص: 417 ] أقول : أما العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله فهو معراج الكمال الإنساني ، وأما العلم بسنته تعالى في خلقه فهو وسيلة ومقصد ، أعني أنه أعظم الوسائل لكمال العلم الذي قبله ، ومن أقرب الطرق إليه ، وأقوى الآيات الدالة عليه ، وأنه أعظم العلوم التي يرتقي بها البشر في الحياة الاجتماعية المدنية فيكونون بها أعزاء أقوياء سعداء ، وإنما يرجى بلوغ كمال الاستفادة منه إذا نظر فيه إلى الوجه الرباني والوجه الإنساني جميعا ، وهو ما كان عمر ينظر فيه بنور الله في فطرته وهداية كتابه ، وأما أبو حامد فقد لاحظ الوجه الرباني فقط ، وإن في سياسة عمر وفي كلامه لدلائل كثيرة على ما ذكرنا من بصيرته في هذا العلم ، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهله ، وأن يجعله وسيلة لنا لتكميل أنفسنا ، وإصلاح ما فسد من أمر أمتنا ، آمين .

إذا تدبرت هذا أيها القارئ ، فاعلم أن الاستدلال بما ورد من الأخبار والآثار في تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن والساعة على أن الأمة الإسلامية قد قضي عليها بدوام ما هي عليه الآن من الضعف والجهل ولوازمهما كما يزعم الجاهلون بسنن الله ، اليائسون من روح الله ، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة ، وأن لسهمها قرطسة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم في الأرض ، فإن عمومها لم يتم بعد ، وكخبر " لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا ، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق " رواه أحمد ، والشطر الأول منه لم يتحقق بعد ، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عند مسلم من أن مساحة المدينة سوف تبلغ الموضع الذي يقال له : إهاب ، أي أن مساحتها ستكون عدة أميال ، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) ( 38 : 88 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية