1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره
صفحة جزء
( وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) أي ، وإن فرض أن أنساك الشيطان النهي مرة ما ، وقعدت معهم في تلك الحال ثم ذكرته فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها ، بدلا من الإحسان إليها بالإيمان والاهتداء بها ، وقرأ ابن عامر : ( ينسينك ) بتشديد السين ، وهو يفيد أن النسيان عذر ، وإن تكرر ؛ لأن في التنسية معنى التكرار .

وهل الخطاب في هذه الآية للرسول والمراد غيره كما قيل في آيات كثيرة غيرها على حد المثل " إياك أعني واسمعي يا جارة " وهو كثير في كلام العرب ؟ أم للرسول بالذات ولغيره بالتبع كما هو الشأن في غير الأحكام الخاصة به - صلى الله عليه وسلم - أم لكل من بلغه كما قيل آيات أخرى ؟ أقول : ظاهر ما نقلناه عن السدي ومقاتل اختيار الأول منها .

وقد استشكل إنساء الشيطان له - صلى الله عليه وسلم - على القول بأن الخطاب في الآية له ، وقد ثبت في نص القرآن أن الشيطان ليس له سلطان على عباد الله المخلصين ، وخاتم النبيين والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - أخلصهم وأفضلهم وأكملهم ، بل ورد في سورة النحل : ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) ( 16 : 99 : 100 ) ولكن إنساء الشيطان بعض الأمور للإنسان ليس من قبيل التصرف والسلطان ، وإلا لم يقع إلا لأوليائه المشركين ، وقد قال تعالى حكاية عن فتى موسى حين نسي الحوت : ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) ( 18 : 63 ) وإنما كان فتاه - أي خادمه لا عبده - يوشع بن نون كما في البخاري ، والمشهور أنه نبي ، وروي عن مجاهد في تفسير ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) ( 12 : 42 ) الآية أن يوسف - عليه السلام - أنساه الشيطان ذكر ربه ، إذ أمر الناجي من صاحبيه في السجن بذكره عند الملك وابتغاء الفرج من عنده ( فلبث في السجن بضع سنين ) عقوبة له ، بل ذكر أهل التفسير المأثور حديثا مرفوعا في ذلك ، رووه مرسلا وموصولا ، وهو " لو لم يقل يوسف - عليه السلام - الكلمة التي قال ، ما لبث في السجن طول ما لبث ، حيث يبتغي الفرج من غير الله تعالى " هذه رواية ابن عباس رفعها ، أخرجها عنه ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، فثبت بهذا أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان لكونه ضارا أو مفوتا لبعض المنافع ، أو لكونه حصل بوسوسته ولو بإشغالها القلب ببعض المباحات - لا يصح أن يعد من سلطان الشيطان على الناسي ، واستحواذه عليه بالإغواء والإضلال الذي [ ص: 424 ] نفاه الله عن عباده المخلصين ; ولهذا قال بعض كبار مفسري السلف بأن الخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - مع العلم بأن الله تعالى فضله على سائر عباده المخلصين المعصومين بإعانته على شيطانه حتى أسلم ، فلا يأمر إلا بالحق كما ورد في الحديث الصحيح ، وقد ينسى الإنسان خيرا باشتغال فكره بخير آخر . قال مجاهد : نهي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد معهم إلا أن ينسى ، فإذا ذكر فليقم . إلخ . رواه عنه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم .

وأما وقوع النسيان مع الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان فلا وجه للخلاف في جوازه ، قال تعالى لخاتم رسله : ( واذكر ربك إذا نسيت ) ( 18 : 24 ) بل ثبت في هذه السورة ( الكهف ) وقوعه من موسى عليه السلام ( قال لا تؤاخذني بما نسيت ) ( 18 : 73 ) وإنما يقوم الدليل على عصمتهم من نسيان شيء مما أمرهم الله تعالى بتبليغه ، وهذا محل إجماع ، ومثله النسيان الذي يترتب عليه إخلال كإضاعة فريضة أو تحريم حلال ، أو تحليل حرام ، وقد جزم الأستاذ الإمام في تفسير ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ( 2 : 106 ) ببطلان ما ذكر السيوطي في أسباب النزول من رواية ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : كان ربما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي بالليل ونسيه بالنهار ، فأنزل الله ( ما ننسخ ) الآية ; لأن ذلك مخالف للقاعدة القطعية المجمع عليها . وقد ورد في الصحيح إسناد النسيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ليلة القدر " فنسيت " وهو في صحيح مسلم ، وفي رواية " فأنسيتها " وثبت في الصحيحين والسنن سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وقوله في بعض الروايات عندهم ما عدا الترمذي : " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني " إلخ . وهو في باب التوجه نحو القبلة من البخاري عن ابن مسعود ، قال الحافظ في شرحه له من الفتح : وفيه دليل على وقوع السهو من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأفعال . قال ابن دقيق العيد : وهو قول عامة العلماء والنظار ، وشذت طائفة فقالت : لا يجوز على النبي السهو ، وهذا الحديث يرد عليهم . اهـ .

وقال النووي في شرحه للحديث في صحيح مسلم ما نصه : " فيه دليل على جواز النسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الشرع ، وهو مذهب جمهور العلماء ، وهو ظاهر القرآن والحديث . واتفقوا على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر عليه ، بل يعلمه الله تعالى به ، ثم قال الأكثرون : شرطه تنبهه - صلى الله عليه وسلم - على الفور متصلا بالحادثة ، ولا يقع فيه تأخير ، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته - صلى الله عليه وسلم - واختاره إمام الحرمين ، ومنعت طائفة من العلماء السهو [ ص: 425 ] عليه - صلى الله عليه وسلم - في الأفعال البلاغية والعبادات ، كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال البلاغية ، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك ، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، والصحيح الأول ؛ فإن السهو لا يناقض النبوة ، وإذا لم يقر عليه لم تحصل منه مفسدة ، بل تحصل فيه فائدة ، وهو بيان أحكام الناسي ، وتقرير الأحكام .

" قال القاضي : واختلفوا في جواز السهو عليه - صلى الله عليه وسلم - في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وادكار قلبه - فجوزه الجمهور ، وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده ، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ، ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ، ولا يضاف إلى وحي - فجوزه قوم ؛ إذ لا مفسدة فيه .

" قال القاضي رحمه الله تعالى : والحق الذي لا شك فيه : ترجيح قول من منع ذلك على الأنبياء في كل خبر من الأخبار ، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا ، لا في صحة ولا في مرض ، ولا رضا ولا غضب ، وحسبك في ذلك أن سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وكلامه مجموعة معتنى بها على مر الزمان ، يتداولها الموافق والمخالف ، والمؤمن والمرتاب ، فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ، ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عنها ، واستدراكه رأيه في تلقيح النخل ، وفي نزوله بأدنى مياه بدر ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني " وغير ذلك . وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع ، والله أعلم " . اهـ .

أما حديث تلقيح النخل الذي أشار إليه ( القاضي عياض فهو ما رواه مسلم في صحيحه ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه قال : مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رءوس النخل ، فقال : " ما يصنع هؤلاء ؟ " قلت : يلقحونه ، يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح ، [ ص: 426 ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما أظن ذلك يغني شيئا " قال : فأخبروا بذلك فتركوه ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فقال : " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإني إنما ظننت ظنا ، فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله عز وجل " ورواه من حديث رافع بن خديج ، قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يؤبرون النخل - يقول يلقحون النخل - ، فقال : " ما تصنعون ؟ " قالوا : كنا نصنعه ، قال : " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا " فتركوه ، فنفضت - أو قال : فنقصت - قال : فذكروا ذلك له ، فقال : " إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " قال عكرمة : أو نحو هذا . قال المعقري : فنفضت ولم يشك . ورواه أيضا عن عائشة وأنس معا بلفظ ، مر بقوم يلقحون ، فقال : " لو لم تفعلوا يصلح " قال ، فخرج شيصا ، فمر بهم ، فقال : " ما لنخلكم ؟ " قالوا : قلت كذا وكذا . قال : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " . والشيص : البسر الرديء ، إذا يبس صار حشفا ، واختلاف الألفاظ يدل على أنها رويت بالمعنى .

قال النووي في شرح الحديث ، قال العلماء : ولم يكن هذا القول خبرا ، وإنما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات ، قالوا : ورأيه - صلى الله عليه وسلم - في أمور المعايش وظنه كغيره ، فلا يمتنع وقوع مثل هذا ، ولا نقص في ذلك ، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها ، والله أعلم . اهـ .

وأما مسألة ماء بدر فهي ما رواه أهل السير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما خرج للقاء المشركين في غزوة بدر نزل عند أدنى ماء من بدر - أي أقربه - فقال له الحباب بن المنذر : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " قال : يا رسول الله : إن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ( أي قريش ) فإني أعرف غزارة مائه - كثرته - بحيث لا ينزح ، فننزله ثم نغور ما عداه من القلب ( جمع قليب كقتيل ، وهو ما لم يبن من الآبار ) ثم نبني عليه حوضا ، فنملأه ماء ، فنشرب ولا يشربون . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد أشرت بالرأي " .

هذا وإن كثيرا من المؤلفين المتأخرين يبالغون في تعظيم الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وتعظيم من دونهم بالأقوال كالشعراء من غير التزام ما جاءوا به عن الله تعالى وما ثبت في سيرتهم . والقاضي عياض - أحسن الله جزاءه - كان من الميالين إلى المبالغة في [ ص: 427 ] التعظيم . وقياسه جميع الأنبياء على خاتمهم الذي أكمل الله به دينهم ، وتمم به مكارم الأخلاق ، وشهد له بالخلق العظيم - لا يصح ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) ( 2 : 253 ) وإنما يظهر الحق في مسألة نسيان الأنبياء والرسل ( ص ) بما ذكرنا من الآيات القرآنية والأخبار النبوية وما في معناها ، كقوله تعالى في أواخر سورة الأعراف : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ) ( 7 : 200 - 202 ) فظاهر السياق أن الخطاب هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يأتي فيه الوجوه التي ذكرناها في أول تفسير الآية التي نحن بصدد تفسيرها . وروى ابن جرير عن أبي زيد قال : لما نزلت ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) ( 7 : 199 ) قال - صلى الله عليه وسلم - : " يارب كيف والغضب " فنزل ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ) الآية . وكحديث عائشة وابن مسعود عند مسلم " ما منكم أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الجن ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " .

فمن تأمل هذه النصوص جزم بأن سلطان الشيطان على الإنسان عبارة عن تمكنه من إغوائه وإضلاله ، وإن مجرد الوسوسة ليس سلطانا ، ولا سيما أدناها ومبدؤها المعبر عنه في آيتي الأعراف بالنزغ والمس على أن ذلك السلطان مجازي لا حقيقي ; لأنه لا يقدر على إكراه إنسان على شيء ، ولكن سميت طاعة وسوسته سلطانا تشبيها بطاعة الملوك والقواد الذين يجبرون أتباعهم على ما يأمرونهم به فيأتونه كرها ، يدل على هذا قوله تعالى : ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) ( 14 : 22 ) الآية . وقوله : ( قضي الأمر ) معناه أمر الحساب في الآخرة . فمن وسوس إليه الشيطان فأمره بمنكر فلم يطعه كان محفوظا من إغوائه ليس له سلطان عليه لا حقيقة ولا مجازا ، وقد يكون له مزية على من لم يوسوس إليه ولم يزين له المعاصي ، إذا صح ما قالوا في تفضيل الأنبياء على الملائكة من كونهم قد ركبت فيهم الشهوات الداعية إلى المعاصي ، فقاوموها والتزموا الطاعة ، وفي إطلاقه بحث ندعه إلى مكان آخر هربا من التطويل ، وقد ثبت أن المتقين قد يمسهم طائف من الشيطان - وهو الوسوسة أو مبدؤها - ولكنه إذا مسهم تذكروا فإذا هم مبصرون فلا يقعون في فخ طاعته ، بل ينبههم طائفه من الغفلة ، فيكونون بعد مسه أشد اتقاء لما لا ينبغي [ ص: 428 ] واجتهادا فيما ينبغي . والأنبياء المرسلون وغير المرسلين ، هم سادات المتقين ، فهم لا يغفلون عن وسوسة الشيطان ، فأنى يكون له عليهم أدنى سلطان ؟ .

وأما النسيان الذي تكون الوسوسة سببه فليس طاعة للشيطان فيكون من سلطانه المجازي على الناسي ، ولكنه إذا كان نسيان واجب أدى إلى تركه حتى فات وقته ، أو نسيان نهي أدى إلى فعل المنهي عنه - كان وقوعه من الأنبياء عليهم السلام مشكلا ، وليس منه نسيان يوسف لذكر ربه عند كلامه مع أحد صاحبي السجن ، ولا نسيان فتى موسى للحوت ، ونبينا - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم - لم يقع منه نسيان أدى إلى مخالفة الأمر بالإعراض عن الذين يخوضون في آيات الله كقعوده معهم ناسيا ، ولو وقع ذلك - معاذ الله - لم يكن منه معصية كمعصية آدم ; لأن الله رفع عنه وعن أمته الخطأ والنسيان كما تدل عليه الآية والحديث الذي يأتي قريبا . ولكن هذا النسيان ينافي العزم ، وهو - صلى الله عليه وسلم - سيد أولي العزم ، وقد قال الله تعالى في آدم - عليه السلام - : ( فنسي ولم نجد له عزما ) ( 20 : 115 ) وقال : ( وعصى آدم ربه فغوى ) ( 20 : 121 ) وما زال العلماء يعدون الجواب عن هذه المسألة أعقد المشكلات في باب القول بعصمة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - مع الجزم بأن آدم لم يكن وقت الامتحان بالنهي عن الأكل من الشجرة نبيا رسولا ، ولم يكن في دار التكليف على ما عليه الجمهور ، وهم لا يقولون بعصمة الأنبياء قبل البعثة من كل ذنب ، وإنما منعوا صدور الكبائر عنهم عمدا ، قال في " المواقف " : وأما سهوا فجوزه الأكثرون ، وأما الصغائر عمدا ، فجوزه الجمهور إلا الجبائي ، وأما سهوا فهو جائز اتفاقا ، إلا الصغائر الخسيسة كسرقة حبة أو لقمة . انتهى المراد منه . ولم تكن معصية آدم إلا عن نسيان ، وحكمتها أنها مظهر استعداد نوع الإنسان ، ولم تكن سببا لسوء قدوة ، ولا معارضة لما قيل في برهان العصمة .

ومن الغريب أن إنجيل متى روى أن إبليس حاول فتنة - أي تجربة - سيدنا عيسى - عليه السلام - بعدة أمور ، ثم قال : ( 4 : 8 ثم أخذه أيضا إلى جبل عال جدا ، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها ( 9 وقال له : أعطيك هذه جميعا إن خررت وسجدت لي ( 10 ) حينئذ قال له يسوع : اذهب يا شيطان ؛ لأنه مكتوب : للرب إلهك تسجد ، وإياه تعبد ) . وعندنا أن الله تعالى قد أعاذ عيسى وأمه من الشيطان ، وأنه لم يمسه حين ولد كما يمس الولدان ، فنحن أشد تعظيما لهما بالحق ممن عبدوهما بغير حق ، وليست وسوسة الشيطان لأي إنسان وأمره إياه بالشر ونهيه عن الخير بنقيصة ، وإنما النقيصة طاعته لعنه الله ، وقد عصم الله تعالى منها رسله وحفظ من دونهم من عباده المخلصين .

فمثل قرناء السوء من جنة الشياطين كمثل ميكروبات الأمراض من جنة الحشرات ؛ [ ص: 429 ] فهذه تمس كل أحد من الناس ، فمن كان قوي المزاج معتدل المعيشة متقيا لها بما يرشد إليه الطب من النظافة واستعمال المطهرات القاتلة لها ، فإنها قلما تصيبه ، وإذا أصابته فلا تضره ، بل قد تنفعه بتعويد مزاجه على المقاومة ، ومن كان ضعيف المزاج مسرفا في المعيشة غير متق لها بمثل ما ذكر فإنها تؤذيه ، ويحدث له بسببها من الأمراض والأدواء ما يكون به حرضا أو يكون من الهالكين . والنفس الزكية الفطرة ، المتقية لله تعالى بهداية الكتاب والسنة لا يكاد الشيطان يضلها ، وإذا طاف بها طائف من وسوسته في حال الغفلة كان هو المذكر لها فإذا هي مبصرة قائمة بما يجب عليها . فمثلها في عدم تأثير الوسوسة فيها أو عدم إفسادها لها كمثل البدن القوي في عدم استعداده لفتك جراثيم الأمراض به ، كما أن النفس الفاسدة الفطرة بالشرك أو النفاق والمعاصي وسوء الأخلاق تكون مستعدة لطاعة الشيطان كاستعداد البدن الضعيف والمزاج الفاسد لتأثير ميكروبات الأمراض . ومن الأرواح والأبدان ما ليس في منتهى القوة ولا غاية الضعف ، فكل منها يتأثر بقدر استعداده ، وتكون عاقبته السلامة إن كان أقرب إلى الصحة والقوة ، والهلاك إن كان بضد ذلك .

فعلم مما تقدم أن الآية لا تدل على أن الشيطان ينسي النبي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر . إما لأن الخطاب فيها لغيره ابتداء ، وإما لأن المراد به غيره وإن وجه إليه على حد : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) ( 39 : 65 ) وفائدة مثله مبالغة المؤمنين في الحذر من وسوسة الشيطان المؤدية إلى الوقوع في النهي . وكون الأنبياء معصومين من الشرك من المسائل القطعية التي لا نزاع فيها ؛ فإن علمهم بالتوحيد برهاني وجداني عياني ، وهو المعبر عنه بحق اليقين وعين اليقين ، وقد رجح هذا الوجه بهذا المثل ، كما ترجحه الآية الآتية بجعلها موضوع المسألة في جماعة المتقين ، وإما لأن الخطاب له على سبيل الفرض لأجل المبالغة في الزجر ، ويمكن الجمع بين هذا الوجه وما قبله . ومن المعهود في التخاطب أن ما يقال على سبيل الفرض يدخل فيه المحال ، فهو لا يقتضي جواز الوقوع ولا احتماله ، وذلك هو الأصل في الجملة الشرطية المبدوءة ب " إن " فقد قالوا : إنها للشك ، وإنما يأتي مثله في كلام الله بحسب الأسلوب العربي لبيان المراد في نفسه بصرف النظر عن القائل . وفائدته هنا بيان كون النسيان عذرا ، فإن لم يقع من المخاطب فقد يقع من غيره فيكون معذورا .

وذهب الزمخشري مذهبا آخر في تنزيهه - صلى الله عليه وسلم - عن هذا النسيان بإيراد احتمال آخر في الجملة قال : ويجوز أن يراد : وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى - بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه - معهم . انتهى . وقد ردوا عليه هذا الوجه ؛ لأنه بناء على قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين ، وبناؤه عليها غير متعين ، ولا ينكر الأشاعرة ولا غيرهم أن عقل المؤمن يجزم [ ص: 430 ] بقبح القعود مع المستهزئين بآيات الله ، وإن لم يكن العقل مستقلا بالتحليل والتحريم فيمكن توجيه هذا الجواز مع رد تلك القاعدة ، إلا أن يمنع منه التعبير بفعل الاستقبال وهو ما اعترض به ابن المنير ، ولكن كيف يخفى مثله على هذا اللغوي النحرير ؟ .

واستنبط العلماء من الآية أن الإنسان غير مؤاخذ بما يفعله في حال النسيان بمعنى أنه لا يعاقب عليه ، وإذا أكل في رمضان ناسيا لا يبطل صيامه ، لا بمعنى أن الحقوق تسقط به ، ويستدل الأصوليون والفقهاء على هذه المسألة بحديث " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقد اشتهر الحديث بهذا اللفظ في كتبهم ، وفيه مقال للمحدثين معروف ؛ أنكره الإمام أحمد رواية ودراية ، فقال : لا يصح ولا يثبت إسناده . وقال : من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله أوجب في قتل النفس في الخطأ الكفارة . وقد يجاب عن هذا بما ذكرناه آنفا من أن رفع النسيان عبارة عن رفع الإثم لا رفع الحقوق ، فمن نسي الصلاة أعادها ، وحقوق العباد أولى بألا تسقط بنسيان ولا خطأ . وأما إسناده فقد رواه ابن ماجه في باب طلاق المكره والناسي من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ " إن الله وضع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " قال في الزوائد : إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع ، ولكن رجح أنه منقطع ، وقال الديبع في الأحاديث المشتهرة : وقد رواه ابن ماجه ، وابن أبي عاصم بلفظ " إن الله وضع عن هذه الأمة ثلاثا : الخطأ ، والنسيان ، والأمر يكرهون عليه " ورواته ثقات ، كذا صححه ابن حبان .

التالي السابق


الخدمات العلمية