1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله
صفحة جزء
( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون وهو الذي خلق السماوات والأرض ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ) .

ضرب الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات مثلا يتضح لمن عقله من المشركين ما تقرر فيها وفي الآيات قبلها من بينات التوحيد ودلائله ، ويظهر لهم سوء حالهم وقبح مآلهم في شركهم ، ويعلل لهم ما بدئ به سياق الآيات الأخيرة فيه - أي التوحيد - من النهي عن دعاء غير الله وعن اتباع أهوائهم ، ويشرح لهم مفهومه ، ويفصل لهم مضمونه ، ويبين لهم مقابله . وأعني بهذا السياق ما في حيز قوله تعالى : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) ( 40 : 66 ) إلخ . وحيز قوله : ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ) ( 63 ) وما يليه من الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة ، وختم الآية بالأمر بالإسلام المقابل لطريق الضلال والهوى ، وبدأ الآية الثانية ببيان أعظم أعمال طريق الهدى ، والآية الثالثة في التذكير بدلائل ذلك ، وعاقبته ، وصدق وعيده تعالى ، وكمال علمه ، وحكمته فيه ، قال :

[ ص: 436 ] ( قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ) روي عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ، فقال الله : ( قل أندعوا ) الآية ، وعن قتادة أنه قال في الآية : خصومة علمها الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة . ولعل هذا مراد السدي ؛ إذ لا يظهر أن مراده أن المشركين قالوا ذلك مرة واحدة لبعض المؤمنين أو لجميعهم ، بل كانوا يفتنون المسلمين دائما ويدعونهم إلى العود إلى الكفر ، ومنه ما روي من دعوة عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما لأبيه إلى الشرك فنزلت الآية ردا عليهم ، فلقنهم الله تعالى هذه الحجة المؤثرة - بما فيها من المثل الجلي الواضح لحالي الشرك وضلاله والتوحيد وهدايته - في سياق حجج الحق الكثيرة في هذه السورة التي نزلت دفعة واحدة كما تقدم ، والاستفهام للإنكار والتعجب ، والمعنى : قل أندعو - متجاوزين دعاء الله القادر على استجابة دعائنا - ما لا يضرنا ولا ينفعنا - كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله - ونرد على أعقابنا بالعود إلى ضلالة الشرك الفاضحة بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام ! .

ومن بلاغة هذه العبارة أنها بينت علة الإنكار والتعجب في الاستفهام من خمسة أوجه :

( أحدها ) أن دعاء غير الله تعالى تحول وارتداد من دعاء القادر على كل شيء ، الذي يكشف ما يدعى إليه إن شاء - إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر .

( ثانيها ) أنه نكوص على الأعقاب ، وتقهقر إلى الوراء ، والعرب تقول فيمن عجز بعد قدرة ، أو سفل بعد رفعة ، أو أحجم بعد إقدام على محمدة : نكص على عقبيه ، وارتد على عقبيه ورجع القهقرى ، والأصل فيه رجوع الهزيمة أو الخيبة والعجز عن السير المحمود ، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم .

( ثالثها ) التعبير ب ( نرد ) المبني للمجهول بدل التعبير ب " نرتد " أو " نرجع " ، والنكتة فيه أن هذا التحول المذموم ليس من شأنه أن يقع من عاقل ; لأن العاقل إذا وصل إلى مرتبة عالية من العلم والكمال فإنه لا يختار الرجوع عنها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وأعلى ، فإذا كانت فطرته وعقله يأبيان عليه هذه الردة والنكوص ، فكيف يرد وهو لا يرتد ؟ .

( رابعها ) أن من أنقذه الله القدير العزيز الرحيم من الضلالة ، وهداه إلى صراط السعادة بما أراه من آيات في الأنفس والآفاق ، وما شرح به صدره للإسلام ، فمن يقدر أن يضله بعد إذ هداه الله ؟ ( ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ) ( 39 : 37 ) .

( خامسها ) المثل الذي يصور المرتد في أقبح حالة كانت تتصورها العرب ، وذلك قوله تعالى : ( كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ) قرأ حمزة " استهواه " بألف ممالة ، وكانوا يرسمونها ياء كأصلها وإن تكن طرفا ، ورسمها في المصحف [ ص: 437 ] الإمام هكذا ( استهوته ) وهو يحتمل القراءتين . وتقدير التشبيه في الكلام أنرد على أعقابنا بعد تلك الهداية مثل رد الذي استهوته الشياطين في الأرض ، أو مشبهين بالذي استهوته الشياطين - إلخ ! . قال أهل اللغة : استهوته الشياطين : ذهبت بهواه وعقله ، وقيل : استهامته وحيرته . وقيل : زينت له هواه ، ويقال للمستهام الذي استهامته الجن : واستهوته الشياطين . القتيبي : استهوته الشياطين هوت به وأذهبته - جعله من هوى يهوي . وجعله الزجاج من هوى يهوى ، أي زينت له هواه . كذا في لسان العرب وغيره ، والمستهام هو الذي جعله العشق أو الجنون هائما ، أي يسير على وجهه لا يقصد غاية معينة ، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن ، والأصل في قولهم : جن فلان - مسته الجن فذهبت بعقله . وكانوا يقولون : إن الجن تظهر لهم في البراري والمهامه ، وتتلون لهم بألوان مختلفة ، فتذهب بلب من يراها فيهيم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك . والشياطين التي تتلون هي التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالي ( بوزن الصحاري ) ، وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا عدوى ولا طيرة ولا غول " قال النووي في شرحه : قال جمهور العلماء : كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات ، وهي من جنس الشياطين ، تتراءى للناس وتتغول تغولا ، أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم ، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاك ، وقال آخرون : ليس المراد نفي وجود الغول ، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها . قالوا : ومعنى " لا غول " لا تستطيع أن تضل أحدا ، ويشهد له حديث آخر " لا غول ولكن السعالي " وقال العلماء : السعالي - بالسين المفتوحة والعين المهملتين - هم سحرة الجن ، أي : ولكن في الجن سحرة ، لهم تلبيس وتخييل " وفي الحديث الآخر " إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان " أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى ، وهذا دليل على أنه ليس المراد نفي أصل وجودها ، وفي حديث أبي أيوب : كان لي تمر في سهوة ، وكانت الغول تجيء فتأكل منه . اهـ .

أقول : إن هذا الشرح مأخوذ من النهاية لابن الأثير ، ليس للنووي من التصرف فيه إلا عزو نفي وجود الغول إلى جمهور العلماء ، وهو القول الذي قدمه ابن الأثير ، وقد نقل عبارته ابن منظور في لسان العرب وغيره من العلماء . وما عزاه النووي إلى الجمهور هو المتبادر في لفظ الحديث ، فإن كلمة " لا غول " نافية لجنس الغول كما هو المتبادر ، وقد ورد هذا اللفظ وحده في حديث لأبي هريرة عند أبي داود ، وما أيد به قول غير الجمهور لا يحتج بشيء منه ; ولذلك لم يعرج الجمهور عليه ، ولكن روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن الغيلان ذكروا عند عمر فقال : إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها ، ولكن لهم سحرة كسحرتكم ، فإذا رأيتم ذلك فأذنوا وهذا رأي لعمر - رضي الله عنه - [ ص: 438 ] فيما كانوا يرونه ، وهو أنه تخييل باطل من ذلك سحر الجن . والجمهور على أن الجن تتشكل ، وهو لا يقتضي إثبات الغول ، وقد اشتهر أن الغول اسم ليس له مسمى في الحقيقة . قال ابن هشام في قول كعب بن زهير :


فما تدوم على حال تكون بها كما تلون في أثوابها الغول

من شرحه لقصيدته ( بانت سعاد ) والغول بالضم كل شيء اغتال الإنسان فأهلكه ، والمراد هنا الواحدة من السعالي وهي إناث الشياطين ، سميت بذلك لأنها - فيما زعموا - تغتالهم ، أو لأنها تتلون كل وقت ، ومن قولهم : تغولت على البلاد - إذا اختلفت . وللعرب أمور تزعمها لا حقيقة لها ، منها أن الغول تتراءى وتتلون لهم ، وتضلهم عن الطريق . وذكر أشياء أخرى من خرافاتهم ، ثم ذكر حديث مسلم في نفي الغول والطيرة ، وقول بعض الشعراء :


الجود والغول والعنقاء ثالثة     أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن

.

وما فسر به ابن هشام الغول هو المعتمد المشهور ، قال في اللسان : والسعلاة والسعلاء - الغول . وقيل : هي ساحرة الجن ، فجعل هذا قولا ضعيفا ثم ذكر قولين آخرين مثله . أحدهما : إنها أخبث الغيلان ، وثانيهما : أنها أنثى الغيلان . ويشبهون المرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق بالسعلاة ، وشبهوا بها الخيل أيضا ، والظاهر أن بعضهم كان يخيل إليه الخوف في البراري المنقطعة شيئا يتلون فيهم على وجهه خوفا لاعتقاده أنه من الجن ، ويحتمل أن يكون بعضهم رأى بعض القردة الراقية التي تشبه العجوز القبيحة الوجه فسموها السعلاة ، وأن تكون السعلاة التي أكلت من التمر في حديث أبي أيوب منها - إن صح ما روي وكان عن مشاهدة - وإلا كان مبنيا على ما توارثه قبل نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - له أو قبل العلم بهذا النفي . وقد قال الله تعالى في الشيطان : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) ( 7 : 27 ) وقال ابن عباس : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير الجن حين استمعوا القرآن منه ، بل علم ذلك بالوحي لقوله تعالى : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) ( 72 : 1 ) ولكن في حديث ابن مسعود - وكان معه - أنه رأى أسودة تشبه السحاب ، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه . وروى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع : سمعت الشافعي يقول : من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيا . انتهى . وقد حملوه كما حملوا الآية على من يدعي رؤيتهم بصورتهم التي خلقهم الله عليها دون الصور التي يتمثلون بها .

[ ص: 439 ] على أننا نقول : إن ما اشتهر عن العرب في مسألة الأغوال واستهوائها بعض الناس في الفلوات حتى يضلوا الطرق لا بد أن يكون له أصل عندهم . والراجح المعقول فيه ما ذكرناه عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - وصرح به بعض المتكلمين من أنه تخيل لا حقيقة له في الخارج ، وقد يكون منه رؤية حيوان غريب كبعض القردة . والعرب تطلق اسم الشيطان على العاتي المتمرد من الإنس والجن ، وعلى بعض الحيوان والحشرات ، وعلى كل قبيح الصورة . قال تعالى في شجرة الزقوم : ( طلعها كأنه رءوس الشياطين ) ( 37 : 65 ) قيل هو نبات قبيح ، وقيل : شبهها بالعارم من الجن . قال في التاج : وقال الزجاج في تفسيره : وجهه أن الشيء إذا استقبح شبه بالشياطين ، فيقال : كأنه وجه شيطان ، وكأنه رأس شيطان ، والشيطان لا يرى ، ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء ، ولو رئي لرئي في أقبح صورة . وقيل : كأنه رءوس حيات ، فإن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا ، وأورد شاهدا من الشعر على ذلك ، وورد في بعض الأخبار أن حيات البيوت من الجن ، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني عند ابن حبان والحاكم وغيرهما " الجن على ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيات وعقارب ، وصنف يحلون ويظعنون " . قال السهيلي : هذا الأخير هم السعالي ، وعن وهب بن منبه أنهم أجناس خالصهم ريح - أي كالريح - لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا يتوالدون ، ولا يموتون ، ومنهم من يأكلون . . إلخ . والحاصل أن اسم الجن والشياطين يطلق عند العرب على بعض الحشرات ، والحيوانات الضارة ، أو القبيحة ، وعلى ما يؤثر عن أهل الكتاب وغيرهم من العالم الروحي الغيبي الذي يوسوس للناس فيزين لهم الشر ، ويلابس بعضهم أحيانا فيصابون بالصرع أو الجنون ، ويتمثل للكهان وغيرهم ، ويراه الأنبياء وبعض الصالحين من باب الكرامة الخاصة . والأكاذيب عن جميع الأمم في ذلك كثيرة ، والشبهات فيها غير قليلة . ولكن قل المصدقون بها في بلاد العلم والمدنية .

التالي السابق


الخدمات العلمية