1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا
صفحة جزء
( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) قيل : إن الإشارة إلى كل ما تقدم في هذا السياق ، وقيل : إلى الآية الأخيرة منه ، والأول أقوى وأظهر وأعم وأشمل ، والمراد بالحجة جنسها ، لا فرد من أفرادها ، أي وتلك الحجة التي تضمنها ما تقدم من المقال ، البعيدة المرمى في إثبات الحق وتزييف الضلال ، هي حجتنا البالغة ، التي لا تنال إلا بهدايتنا السابغة ، أعطيناها إبراهيم حجة على قومه مستعلية عليهم ، قاطعة لألسنتهم ( نرفع درجات من نشاء ) الدرجات في الأصل مراقي السلم وتوسع فيها فصارت تطلق على المراتب المعنوية في الخير والجاه والعلم والسيادة والرزق ، وقد قرأ الكوفيون درجات بالتنوين ، وقرأها الباقون بالإضافة إلى من نشاء ، ومعنى الأول نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكن على درجة منها ، ومعنى الثانية نرفع درجات من شئنا من أصحاب الدرجات حتى تكون درجته في كل فضيلة ومنقبة أرفع من درجة غيره فيها ، وحكمة القراءتين ، إثبات المعنيين ، فالعلم النظري درجة كمال ، والحكمة العلمية والعملية درجتا كمال ، وفصل الخطاب وقوة العارضة في الحجاج من درجات الكمال ، والسيادة والحكم بالحق درجة كمال ، والنبوة والرسالة أعلى من كل هذه الدرجات ; لأنها تشتمل عليها وتزيد عنها ، وكل ذلك متفاوت بفضل الله فضل بعض أهله على بعض ، فهو سبحانه يؤتي الدرجات ابتداء بإعداده وبتوفيقه من يشاء للكسبي منها ، واختصاصه من [ ص: 486 ] يشاء بالوهبي منها ، ثم هو الذي يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما ترتقي به درجته ، وبصرف موانع هذا الارتقاء عنه ، وبإيتاء ذي الدرجة الوهبية ( النبوة ) ما لم يؤت غيره من أهلها من المناقب والآيات المنزليه والتكوينية وكثرة إهداء الخلق بها ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) 2 : 253 وجملة ( نرفع ) استئنافية مبنية أن ما آتى الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الحجة كان باختصاصه بأعلى درجات النبوة الوهبية ، وما ترتب عليها من درجات الدعوة الكسبية ، وقوله تعالى بعد هذا : ( إن ربك حكيم عليم ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله مبين لمنشئه ومتعلقه من صفات الله تعالى ، وقد وضع فيه اسم الرب مضافا إلى ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام ، موضع نون العظمة على طريق الالتفات ، تذكيرا منه تعالى لخاتم رسله بفضله عليه وتفضيله إياه ، برفعه درجات على جميع رسل الله ، فهو يقول له إن ربك الذي رباك وآواك ، وعلمك وهداك ، ورفع ذكرك بجوده وكرمه ، وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه ، حكيم في فعله وصنعه ، عليم بشئون خلقه وسياسة عباده ، وسيريك شاهد ذلك عيانا في سيرتك مع قومك ، كما أراكه بيانا فيما كان من إبراهيم مع قومه .

وقد زعم الرازي أن هذه الآيات تدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية ، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال ، وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا النظر والاستدلال بأحوال المخلوقات ; إذ لو أمكن تحصيلها بغير ذلك لما عدل عليه الصلاة والسلام إلى هذه الطريقة . وقد علم مما فسرنا به الآيات بطلان الحصر في هذين الزعمين وبطلان غيره من مزاعمه النظرية في هذا المقام . والحق أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعليم الوحي وعلم الأنبياء به ضروري لا نظري ، فقد علمهم به ما لم يكونوا يعلمون بنظرهم من المسائل ، وعلمهم ما يثبتونها به من الحجج العقلية والدلائل ، ولكن من طرق دعوتهم إلى ما هداهم إليه ، ومن استدلالهم عليه بعد إعلامهم به ، ما هو كسبي لهم يؤدونه بنظرهم واستدلالهم ، وقد اطلعنا على نظريات فلاسفة اليونان ، وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام ، فوجدنا أكثرها في باب الإلهيات أوهاما ، وقد اعترف الرازي نفسه بذلك في آخر عمره ، وندم على ما فرط فيه ، ولنا بيتان في هذا المقام ، قلناهما في أيام تحصيل علم الكلام :


يا أيها الرجل الذي هو جاهد في الفلسفه .

    ماذا يروقك من تعلــ
ـمها وأكثرها سفه

.

التالي السابق


الخدمات العلمية