صفحة جزء
( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) أي وأقسم أولئك المشركون المعاندون بالله أشد أيمانهم تأكيدا ومنتهى جهدهم ووسعهم مبالغة فيها ، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها أو مطلقا ليؤمنن بها أنها من عند الله للدلالة على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيكون إيمانهم بها إيمانا به أو ليؤمنن بما دعاهم إليه بسببها : ( قل إنما الآيات عند الله ; أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله تعالى فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته ، ( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) 13 : 38 ومشيئته ، وكمال الأدب معه تعالى أن يفوض إليه الأمر في ذلك . وتقدم تحقيق المسألة في أوائل تفسير السورة .

روى أبو الشيخ عن ابن جريج أن هذا نزل في المستهزئين الذين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية ، وأخرج ابن جرير مثله عن محمد بن كعب القرظي مفصلا ، فذكر أنهم ذكروا له أخبارا بعصا موسى وإحياء عيسى الموتى وناقة ثمود وطلبوا منه أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأقسموا بالله لئن فعل ليتبعنه أجمعين ، فقام - صلى الله عليه وسلم - يدعو فجاءه جبريل فخيره بين أن يصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا - أي عذاب الاستئصال حسب سنته تعالى كما تقدم في هذه السورة - وبين أن يتركهم حتى يتوب تائبهم فاختار الثاني فأنزل الله فيهم ( وأقسموا بالله ) حتى ( ولكن أكثرهم يجهلون ) أي فأنزل الله هذه الآيات في ضمن السورة التي نزلت دفعة واحدة ، وتقدم تحقيق مثله مرارا .

( ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أي إنكم ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى ، وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءت الآية . والخطاب للمؤمنين الذين تمنوا مجيء الآية ليومنوا والنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم ، وقيل لهم وحدهم ، ويؤيد الأول رواية دعائه بذلك ، ورواية طلبه القسم منهم ليؤمنن بها ، وقد غفل من غفل من المفسرين عن كون الاستفهام إنكاريا نافيا لشعورهم بهذا الأمر الثابت عنده تعالى في علم الغيب ، فذهب إلى أن المعنى وما يشعركم أنهم يؤمنون إذا جاءت ؟ فجعلوا النفي لغوا ، وذهب بعضهم إلى أن ( أنها ) بمعنى لعلها ، ونقلوا هذا عن الخليل وجاءوا عليه بشواهد ، هم في غنى عنه وعنها . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه عن عاصم ويعقوب ( إنها ) بكسر الهمزة كأنه قال : وما يشعركم ما يكون منهم إذا [ ص: 560 ] جاءت ؟ وكأنهم قالوا : ماذا يكون منهم ؟ فأخبرهم بذلك قائلا : أنها إذا جاءت لا يؤمنون وقرأ ابن عامر وحمزة ( لا تؤمنون ) الخطاب للمشركين ، وهو كسابقه التفات وتلوين .

( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) هذا عطف على قوله : ( لا يؤمنون ) وبيان لسنة الله تعالى في عدم إيمانهم برؤية الآية . أي وما يشعركم أيضا أننا نقلب أفئدتهم عند مجيء الآية بالخواطر والتأويلات والتفكر في استنباط الاحتمالات وأبصارهم في توهم التخيلات . كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات ، وقيل الضمير في قوله تعالى : ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) ( 15 : 14 : 15 ) فإن من لم يقنعه ما اشتمل عليه القرآن من الآيات العقلية العلمية ، لا يقنعه ما يراه بعينه من الآيات الحسية ، بل يدعي أن عينيه خدعتا أو أصيبتا بآفة فهي لا ترى إلا صورا خيالية ، أو أنه من أعمال السحر الصناعية ، وهل هذا إلا خلق الأولين ، في مكابرة آيات من بعث فيهم من المرسلين ؟

( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) العمه : التردد في الأمر من الحيرة فيه ، أي وندعهم في تجاوزهم الحدود في الكفر والعصيان ، المشابه لطغيان الماء في الطوفان ، الذي رسخوا فيه فترتب عليه ما ذكر من سنتنا في تقليب القلوب والأبصار ، يترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات ، هل هو الحق المبين ، أم السحر الذي يخدع الناظرين ؟ وهل الأرجح اتباع الحق بعد ما تبين ، أم المكابرة له والجدال فيه كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم ؟ وهذا صريح في أن رسوخهم في الطغيان الذي هو منتهى الإسراف في الكفر والعصيان ، وهو سبب تقليب القلوب والأبصار وإنما إسناده إلى الخالق لها لبيان سنته الحكيمة فيها . كغيره من ربط المسببات بأسبابها ، وإنما يخطئ كثير من الناس هذا الأمر الواقع لعدم التأمل فيه ، وتوهم أن جميع ما يسند إليه تعالى فهو من الخلق المستقل دون نظام للمقادير ، وهى نزعة قدرية داخلة في قولهم " الأمر أنف " أو لا نظام فيه ولا قدر ، يتبعهم خصومهم فيها وهم لا يشعرون ، ويوقعهم التعصب للمذاهب في أظهر التناقض وهم غافلون ، فنسأله تعالى أن يثبت أفئدتنا وأبصارنا على الحق ، ويحفظنا من الطغيان والعمه في كل أمر ، ويجعلنا ممن أبصر بما جاءه من البصائر ، ويصلح لنا السرائر والظواهر ، اللهم آمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية