1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته
صفحة جزء
[ ص: 43 ] ( العبرة في هذا المراء والرد على أهله ) أبدأ ما أريد من بيان العبرة في هذا الكلام باستغفار الله تعالى من نقله ولو مع حسن النية ، لما فيه من سوء التعبير والبعد عن الأدب مع الخالق العظيم العزيز الحكيم ، وبالاستعاذة بالله تعالى من عصبية المذاهب التي توقع صاحبها في مثل هذا وفيما هو شر منه ، ثم أفصل ما قصدت بيانه في مسائل :

( 1 ) إن نظريات متكلمي المعتزلة والجهمية والأشاعرة في مثل هذه المسألة ، ونظريات من سبقهم إلى ابتداع الكلام مخالفة لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم ومن تبعهم من علماء الأمصار ، كأئمة الفقهاء الأربعة وإن ابتلي بها كثير من المنتمين إليهم - فلم يكونوا جبرية ولا قدرية ولا منكرين لشيء مما وصف الله تعالى به نفسه أو أسنده إليه من الصفات والأفعال بضروب من التأويلات ، ولم يبن أحد منهم عقيدته على استحالة التسلسل والحوادث التي لا أول لها ، ولا على إنكار حسن الأشياء وقبحها في نفسها ، أو إنكار امتناع التكليف بما لا حسن فيه لذاته عند العقل ، وما كانوا يتنابزون بالألقاب ولا يتمارون ويتجادلون لإثبات المذاهب والآراء ، ولا يضللون المخالف لهم بلوازم يستنبطونها من المقال ولا يشوهون رأيه بالتعبير عنه بعبارات تنافي الآداب ، وقد أحسن العلماء الذين قالوا بعدم الاعتداد بنقل المخالف ، فما القول في نقل المخاصم المماري ، بل الذي يجعل مخالفه خصما للخالق ! تعالى الله عن ذلك .

( 2 ) مسألة الوجوب على الله تبارك وتعالى ، وتبرؤ الأشاعرة منها وقول المعتزلة بها ، مذهب السلف الصالح هو الحق في المسألة ، وما كانوا ينكرون الوجوب ولا يقولون به على إطلاقه ، وإنما مذهبهم أنه لا يجب على الله - تعالى - إلا ما أوجبه وكتبه على نفسه وما هو مقتضى صفاته ومتعلقاتها ، فكما وجب له تعالى في حكم العقل الاتصاف بصفات الكمال وجب أن يترتب على تلك الصفات ما يسمونه متعلقاتها كالعدل والحكمة والرحمة ( كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) ( 6 : 54 ) وأنه لا يجب عليه سبحانه شيء بحكم غيره ، إذ لا سلطان فوق سلطانه فيوجب عليه ويجعله مسئولا ولا مثله ، بل لا يوجد شيء في السماء ولا في الأرض إلا وهو ساجد له خاضع لسلطانه ( إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) ( 55 : 33 ) ولكن الأشاعرة ينقلون عن المعتزلة القول بأنه يجب على الله كذا وكذا ، ويحتجون عليهم بقوله تعالى : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ( 21 : 23 ) فيدل نقلهم على أنهم يوجبون عليه تعالى إيجاب من يكون مكلفا مسئولا ، وهم لا يقولون بذلك ، ثم يحتجون - بهذه الآية - عليهم بأن له تعالى أن يعذب المؤمنين الصالحين حتى [ ص: 44 ] الملائكة والنبيين وأن ينعم الشياطين والمجرمين ، والآية إنما تنفي أن يكون لأحد من الخلق سلطان على الرب عز وجل يحاسبه به ويسأله عن شيء ، وثبت له وحده السلطان الأعلى على كل فاعل مختار من المكلفين كسائر خلقه ، فهو به يحاسبهم ويسألهم عما فعلوا بنعمه التي أنعم بها عليهم وعما كلفهم إياه ولا يدخل في هذا الإثبات أنه يجوز عليه تعالى أن يجعل المسلمين كالمجرمين والمتقين كالفجار ، بل هذا محال عليه سبحانه كما يدل عليه العقل الذي وهبه ، والكتاب الذي أنزله : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) ( 68 : 35 ، 36 ) ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ( 38 : 28 ) وإننا ننقل عبارة لعالم مستقل في هذا الوجوب ليعرف الفرق بينه وبين كلام المتعصبين على أنه شديد الإنكار على المخالفين .

قال الشيخ المقبلي في كتابه ( العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ ) : واعلم أن المعتزلة اختلفوا فيما بينهم في معنى الوجوب على الله تعالى ، فقالت البصرية : معناه في حق غيره وهو في حقه أحق وأولى : فإن قلت فمن لوازم الوجوب والقبح الثواب والعقاب وذلك لا يعقل في حق البارئ تعالى . قلت : هما من لوازم التكليف ، والتكليف عندهم طلب البارئ تعالى الفعل المتصف بالحكم من المكلف مع مشقة تلحق المكلف ومع إرادة المكلف تعالى ، وقولنا طلب ، ليس من عباراتهم ، إنما يقولون إعلام البارئ المكلف شأن الفعل الموصوف إلخ . والذي ذكرناه أولى . فالتكليف غير معقول في حق البارئ تعالى ، والتكليف إنما يكون من البارئ تعالى ، ولا يصح من غيره ; لأن التكليف مصلحة خالصة أي جلب منفعة أو دفع مضرة ولوازمه عندهم الثواب الدائم والعقاب الدائم ، والعالم بكل مصلحة وكل مفسدة والقادر على الوفاء كما يريد هو البارئ تعالى . وهذا كله صريح في كتبهم شهير لمن له أدنى معرفة فيها ، وإنما التجاسر على الرواية وعدم المبالاة هو الذي كثر الشقاق وسلى عن الوفاق ، ولا يخلو مذهب من عدم إنصاف الخصم وإن اختلفوا قلة وكثرة إلى آخر ما قال ، وفيه الترغيب في أخذ المذاهب من كتبها لا من أقوال الخصوم لأهلها .

ثم قال : وحاصل مذهبهم أن المدح والذم من لوازم التحسين والتقبيح ، والثواب والعقاب من توابع التكليف ، والبصرية يوجبون الثواب ويحسنون العقاب فقط ، وللبارئ تعالى أن يسقطه عقلا ولزوم الثواب وحسن العقاب هما المحسنان للتكليف عندهم كما مضى ، ومعنى الاستحقاق عندهم أنه يحسن لا أنه يجب . والبغدادية يقولون : يجب الثواب وجوب جود بمعنى أن صفات الكمال تقتضي توفر دواعي الحكيم إلى فعله وما خلص الداعي إليه وجب أن يفعله الحكيم ، ومع هذا يطلقون أن الثواب تفضل ، أي ليس له جهة وجوب في نفسه [ ص: 45 ] فاعرف مذهبهم فكم غلط عليهم إخوانهم البصريون فضلا عن غيرهم ، ويكفي في حسن التكليف عندهم سابقة الإنعام ويقولون بوجوب العقاب ويجوزون العفو عقلا ؛ لأنه لطف للمكلفين واللطف واجب عندهم ، فمذهب الفريقين في الثواب والعقاب متعاكس " اهـ .

وقد أطال المقبلي في بيان مذهب المعتزلة في مبحث التحسين والتقبيح وأرجع كلام البغدادية منهم إلى كلام البصرية . وأيضا في الرد على الرازي في هذا المبحث وفروعه ولا سيما زعمه أنه لا يمكن التخلص من مذهب القدرية إلا بالقول بالجبر أو بالتزام التخصيص من غير مخصص وهو ما يكرره في تفسيره . ثم انتقل منه إلى مبحث خلق الأفعال ورد فيه على الأشعرية في القول بتكليف ما لا يطاق ونفي التحسين والتقبيح مطلقا ، أي حتى الشرعيين ; لأن ما أمر به الشرع ليس فيه حسن ذاتي عندهم ، وإنما حسنه أنه أمر به ، ولو نهى عنه لكان قبيحا ، وفي الجبر وغير ذلك .

( 3 ) المناظرة بين الأشعري وشيخه الجبائي مشهورة في كتب الكلام والتراجم للأشاعرة ويذكرون أنها وقعت بين الشيخين مشافهة ولم يذكروا ما ذكر الرازي من توسط العجوز بينهما ، وقد أوردها المقبلي بالاختصار ثم قال :

فهذه الحكاية هوس ، وأدنى المعتزلة - فضلا عن شيخهم - يقول من جواب الله على الصغير : فضلي أتفضل به على من أشاء كما كان جواب الله على أهل الكتاب في حديث تفضيل هذه الأمة . وهذا جواب على أصل المعتزلة لأن التكليف تفضل عند البصرية منهم أبو علي وغيره ، ومن قال منهم - وهم البغدادية - إن التكليف واجب فهو عندهم وجوب جود لا نعترض على تاركه ، وأيضا فهو مصلحة ، ويشترط في كل مصلحة خلوها عن المفسدة ولو كانت المفسدة في غير ذلك المكلف عندهم كما أن ذلك كله مشهور من مذاهبهم ، وعلى الجملة فالاعتراض على الله ساقط إجماعا ، أما عندهم فلأن الاعتراض مطلقا إنما يكون لمخالفة ما ينبغي في نفس الأمر ، وهذا لا معنى له عند الأشعري ؛ إنما معناه فينا أنا خالفنا القادر الذي جعل مخالفته علامة عقوبته ، لا لأنه منعم متفضل حقيق بأن يمتثل أمره فإن هذا معنى التحسين الذي نفوه ، ولكن لخوف ضرره الذي نصب الوعيد علامة له فكلنا عبد العصا . وأما عند المعتزلة فلأن الله سبحانه حكيم واجب الحكمة فكل جزئي نراه ندخله في الكلية ، إن عرفنا الحكمة فيه علما أو ظنا ففضل من الله ، وإلا فنحن في سعة رددناه إلى حكمة أحكم الحاكمين ، وعلم أرحم الراحمين ، فكيف يتمشى الاعتراض ؟ أما عند الأشاعرة فلأنه كالاعتراض على الجبابرة الذين لا يعرفون غير النطع والسيف ، وأما [ ص: 46 ] عند المعتزلة فلأنه من اعتراض الجاهلين على أحكم الحاكمين . انتهى المراد منه ويتلوه التشنيع على الأشعري وأصحابه في سياق رد طويل في أصل المسألة ، والتعجب من نقل كبار علمائهم لهذه المناظرة التي سماها خرافة .

وغرضنا من نقل كلامه إقناع القارئ بألا يطمع في معرفة الحق الخالص في هذه المسائل من متعصب لمذهب من المذاهب فيها إلا أن يكون مذهب السلف الصالح ; لأننا نقطع بأن ما كانوا عليه من علم وعمل بالدين وهو الإسلام الذي جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ولأنه ليس مذهب رجل واحد تألفت له عصبية تنصره وتعد كلامه أصلا في الدين تقبل ما وافقه من نصوص الكتاب والسنة وترد ما خالفه بتأويل أو باحتمال وجود تأويل .

( 4 ) لما ظهر الجدل الذي سمي علم الكلام عده علماء السلف كالشافعي وأحمد بدعة سيئة ونهوا عنه ، ثم كان كثير من المنتمين إليهم من كبار المتكلمين ، فأكثر المعتزلة والمرجئة من الحنفية والزيدية ، وأكثر الأشاعرة من الشافعية والمالكية ، ولكن المخلصين منهم كانوا ( يرجعون إلى مذهب السلف الصالح في أواخر أعمارهم ) كما صرحنا به مرارا ، وأكبر أنصار مذهب السلف في القرون الوسطى وأقواهم حجة شيخا الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية وشمس الدين محمد بن قيم الجوزية ومن أوسع كتب الأخير في هذا الموضوع الذي تخوض في أعضل مسائله كتاب ( مفتاح دار السعادة ) وكتاب ( شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ) .

( 5 ) كلمة الاعتدال الوسطى في الخلاف بين القدرية والجبرية . قال المحقق ابن القيم في شفاء العليل : " اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل ، والعبد فاعل منفعل . وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه . فالجبرية شهدت كونه منفعلا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل ، وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار ولم يجعلوه فاعلا إلا على سبيل المجاز ، فقام وقعد وأكل وصلى وصام عندهم بمنزلة : مرض وألم ومات ونحو ذلك مما هو فيه منفعل محض . والقدرية شهدت كونه فاعلا محضا غير منفعل في فعله . وكل من الطائفتين نظر بعين عوراء . وأهل العلم والاعتدال أعطوا كل المقامين حقه ولم يبطلوا أحد الأمرين بالآخر ، فاستقام نظرهم ومناظرتهم واستقر عندهم الشرع والقدر في نصاب وشهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به " وأفاض في تفصيل ذلك والشواهد عليه من آيات القرآن الحكيم .

وما ذكر من نوط خطأ الغلاة بنظر بعضهم إلى أحد وجهي الشيء أو جزئه ونظر [ ص: 47 ] الآخرين إلى الآخر يرجع إلى ما قلناه من الأخذ ببعض النصوص والغلو فيه وترك البعض الآخر في الحقيقة الواحدة . غلت القدرية في مسألة الحكمة في الخلق والتكوين ، والأمر والتشريع ، وغلت الجبرية في مسألة المشيئة والإرادة . فهؤلاء جوزوا أن تخلو المشيئة عن الحكمة ، وأولئك قيدوا مشيئة الرب بما تصل إليه أفهامهم من الحكمة ، وإن كان كل منهما يؤمن بالصفتين كلتيهما ، ونزاعهم الطويل العريض في مسألة الحسن والقبح والتحسين والتقبيح مبني على ذلك ، فالغلاة في إثباتها قالوا : إن في كل فعل يقع التكليف به فعلا أو تركا حسنا أو قبحا ذاتيا يعرف بالعقل ويأتي الشرع بالأمر كاشفا لحسن المأمور به ، وبالنهي كاشفا لقبح المنهي عنه ، ولا يكون شيء حسنا بمجرد الأمر ولا قبيحا بمجرد النهي والغلاة في نفيها قالوا : لا حسن ولا قبح ذاتيا في شيء من الأشياء يكون مناط التكليف وسببه وسبب ما يترتب عليه من الثواب والعقاب ، وإنما ذلك بالشرع وحده ، فالعدل والصدق والصلاة والصيام لا حسن فيها لذاتها بل الأمر بها هو الذي جعلها حسنة ، وكذلك الظلم والكذب والسكر لا قبح فيها لذاتها بهذا المعنى ، بل عرف قبحها بالشرع ، وأنه يجوز أن يأمر الرب بما نهى عنه وينهى عما أمر به ، ولو فعل ذلك لكان الجور والكذب حسنا والعدل والصدق قبيحا ، وكذلك العبادات كلها ، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ، والقول الأول أقرب إلى المعقول والمنقول ، ولكن وقع كثير من القائلين به في الإفراط والغلو فالقول الوسط الذي عليه المعتدلون الجامع بين النصوص : أن صفات الله تعالى لا تعارض بينها فلا تتعلق مشيئته تعالى بما ينافي حكمته وعدله ورحمته وحكمته لا تقتضي تقييد مشيئته بما نفهمه ونعقله نحن منها بحيث نوجب عليه بعض الأوامر والأفعال ، ونحظر عليه بعضها وإنما نعتقد أن كل ما يأمر به فهو حسن ، وأنه لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلا عما هو قبيح ، كما قال : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) ( 16 : 90 ) وقال : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ( 7 : 28 ) وهذا احتجاج على المشركين ، والمراد فيه بالفحشاء والفاحشة معناه اللغوي وهو ما عظم قبحه ، ولأجله نهى عنه وحسن العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى متفق عليه بين العقلاء ولأجله أمر به ، ولكن الأمر بالشيء قد يكون لما في نفس ذلك الشيء من الحسن والمنفعة ، وقد يكون ابتلاء للعبد لأجل القيام به لمحض الامتثال والطاعة وهذه مصلحة ومنفعة حسنة ، لكن حسنها ليس في ذاتها بل في شيء خارج عنها ، ومنه أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده . وجميع الأفعال التي يسميها الفقهاء تعبدية ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى في تعليل الأمر بإقامتها ، فحسنها ذاتي لها ؛ لأنها سبب لذلك من حيث هي مناجاة لله تعالى وذكر ومراقبة له ، ولكن فيها ما لا يدرك العقل حسنه في ذاته كعدد الركعات والركوع [ ص: 48 ] والسجود فيها ، وإن جوز أن يكون له حكمة عند الله تعالى فوق مجرد تعبدنا به . وقد شبه الغزالي هذه الحكمة بحكمة الطبيب في تفاوت مقادير أجزاء الدواء المركب من عدة أجزاء وما ينبغي للمريض من التسليم له بذلك وإن لم يعرفه . والخمر والميسر فيهما إثم كبير ، وأكبره أنهما يسهلان للشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بين السكارى والمقامرين بعضهم مع بعض ومع غيرهم ، ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة وهذه قبائح ذاتية فيهما .

وجملة القول : أن الله تعالى خالق كل شيء ، وأنه يخلق بقدر ونظام وحكمة وسنن لا أنفا ولا جزافا ولا عبثا ، وأنه حكيم في خلقه وأمره ، لم يشرع لعباده شيئا عبثا كما أنه لم يخلقهم عبثا ، وأنه خلق الإنسان قادرا مريدا فاعلا بالاختيار ، يرجح بحسب علمه النظري وشعوره الوجداني بعض الأعمال على بعض ، ويحكم على نفسه فيقدر على تكلف ما يؤلمه ولا يلائم هواه ولذته ، وأن أفعاله تسند إليه ويوصف بها لأنها تقوم به وتصدر عنه باختياره ، لا لأنه محلها ، وتنسب إلى مشيئة الله تعالى من حيث إنه هو الخالق له بهذه الصفات ، والمعطي له هذا التصرف والاختيار ، والهادي له إلى السنن والأسباب ، والخالق لما يتعلق به عمله من الأشياء ، ولكنه تعالى لا يوصف بتلك الأعمال الاختيارية ، ولا تسند إليه إسناد الفعل إلى من قام به ، بحيث يشتق له الوصف منه فيقال : أكل زيد فهو آكل ، وصلى عمرو فهو مصل ، وسرق بكر فهو سارق ، ولا يقال شيء من ذلك في البارئ تعالى .

ولا يخلق الله - تعالى - شيئا قبيحا ولا شرا بل هو : ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) ( 32 : 7 ) ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ( 27 : 88 ) فالخير كله بيديه والشر ليس إليه كما ورد ، وإنما يطلق الشر والقبيح على بعض الأعمال التي تقع من المكلفين أو عليهم ، ويوصف بهما بعض الأشياء التي تضرهم أو تسوءهم ، فما يترتب عليه ألم أو ضرر لهم من أعمالهم أو من حوادث الكون يسمونه شرا بالنسبة إلى من يضره وإن كان خيرا بالنسبة إلى غيره فمن هدم المطر أو فيضان النيل داره يعد شرا له وإن كان خيرا لمن لا يحصى من الناس ، وكثيرا ما يعد الإنسان الشيء شرا له لقصر نظره أو بالنسبة إلى مبدئه ، ويكون خيرا في الواقع أو في الغاية . قال تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) ( 24 : 11 ) وقال عز وجل : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ( 2 : 216 ) وقال فيمن يكرهون نساءهم : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ( 4 : 19 ) وأعظم هذا الخير ولادة الأولاد النجباء ، ولكن جميع ما يسميه الناس شرا من أعمالهم أو من حوادث الكون يقع بقدر الله ووفاق سننه في نظام الكون وربط أسبابه [ ص: 49 ] بمسبباته ، وقد رد المحقق ابن القيم على الجبرية نفاة الحسن والقبح في الأشياء في كتابه ( مفتاح دار السعادة ) من 63 وجها فليراجعه من شاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية