صفحة جزء
( فصل )

ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار شرعا وعقلا وذلك يظهر من وجوه : ( أحدها ) أن الله سبحانه وتعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع ، وأنه غير مجذوذ . وأما النار فلم يخبر عنها بأكثر من خلود أهلها فيها وعدم خروجهم منها ، وأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، وأنها مؤصدة عليهم ، وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، وأن عذابها لازم لهم وأنه مقيم عليهم لا يفتر عنهم . والفرق بين الخبرين ظاهر .

الوجه الثاني - أن النار قد أخبر الله سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدل على عدم أبديتها : الأولى - قوله سبحانه وتعالى : ( قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) ( 6 : 128 ) والثانية قوله : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ( 11 : 107 ) والثالثة قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) ( 78 : 23 ) ولولا الأدلة القطعية الدالة على أبدية الجنة ودوامها لكان حكم الاستثناء في الموضعين واحدا ، كيف وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناءين ؟ فإنه قال في أهل النار : ( إن ربك فعال لما يريد ) فعلمنا أنه سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلا لم يخبرنا به ، وقال في أهل الجنة : ( عطاء غير مجذوذ ) فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدا . فالعذاب موقت معلق والنعيم ليس بموقت ولا معلق .

الوجه الثالث - أنه قد ثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرا قط من المعذبين الذين يخرجهم الله من النار ، وأما النار فلم يدخلها من لم يعمل سوءا قط ولا يعذب إلا من عصاه .

الوجه الرابع - أنه قد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ينشئ للجنة خلقا آخر يوم القيامة يسكنهم إياها ولا يفعل ذلك بالنار ، وأما الحديث الذي قد ورد في صحيح البخاري من قوله : " وأما النار فينشئ الله لها خلقا آخرين " فغلط وقع من بعض الرواة انقلب عليه الحديث وإنما هو ما ساقه البخاري في الباب نفسه " وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا آخرين " ذكره البخاري - رحمه الله - مبينا أن الحديث انقلب لفظه على من رواه بخلاف هذا وهذا . والمقصود أنه لا تقاس النار بالجنة في التأبيد مع هذه الفروق .

يوضحه الوجه الخامس أن الجنة من موجب رحمته ورضاه ، والنار من غضبه وسخطه ، ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي " وإذا كان رضاه قد سبق غضبه وهو يغلبه كان التسوية بين ما هو من موجب رضاه وما من موجب غضبه ممتنعا . [ ص: 71 ] يوضحه الوجه السادس - أن ما كان بالرحمة وللرحمة فهو مقصود لذاته قصد الغايات ، وما كان من موجب الغضب والسخط فهو مقصود لغيره قصد الوسائل فهو مسبوق مغلوب مراد لغيره ، وما كان بالرحمة فغالب سابق مراد لنفسه .

يوضحه الوجه السابع - وهو أنه سبحانه قال للجنة : ( أنت رحمتي أرحم بك من أشاء - وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء ) وعذابه مفعول منفصل وهو ناشئ عن غضبه ، ورحمته هاهنا هي الجنة وهي رحمة مخلوقة ناشئة عن الرحمة التي هي صفة الرحمن . فهاهنا أربعة أمور : رحمة هي وصفه سبحانه ، وثواب منفصل وهو ناشئ عن رحمته ، وغضب يقوم به سبحانه ، وعقاب منفصل ينشأ عنه . فإذا غلبت صفة الرحمة صفة الغضب فلأن يغلب ما كان بالرحمة لما كان بالغضب أولى وأحرى ، فلا تقاوم النار التي نشأت عن الغضب الجنة التي نشأت عن الرحمة .

يوضحه الوجه الثامن - أن النار خلقت تخويفا للمؤمنين وتطهيرا للخاطئين والمجرمين ، فهي طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في هذا العالم ، فإن تطهرت هاهنا بالتوبة النصوح والحسنة الماحية والمصائب المكفرة لم تحتج إلى تطهير هناك ، وقيل لها مع جملة الطيبين : ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) ( 39 : 73 ) وإن لم تتطهر في هذه الدار ووافت الدار الأخرى بدرنها ونجاستها وخبثها أدخلت النار طهرة لها ، ويكون مكثها في النار بحسب زوال ذلك الدرن والخبث والنجاسة التي لا يغسلها الماء ، فإذا تطهرت الطهر التام أخرجت من النار ، والله سبحانه خلق عباده حنفاء ، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فلو خلوا وفطرهم لما نشئوا إلا على التوحيد ، ولكن عرض لأكثر الفطر ما غيرها ; ولهذا كان نصيب النار أكثر من نصيب الجنة ، وكان هذا التغيير مراتب لا يحصيها إلا الله ، فأرسل الله رسله وأنزل كتبه يذكر عباده بفطرته التي فطرهم عليها ، فعرف الموفقون الذين سبقت لهم من الله الحسنى صحة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب بالفطرة الأولى ، فتوافق عندهم شرع الله ودينه الذي أرسل به رسله وفطرته التي فطرهم عليها ، فمنعتهم الشرعة المنزلة والفطرة المكملة أن تكتسب نفوسهم خبثا ونجاسة ودرنا يعلق بها ولا يفارقها ، بل كلما ألم بهم شيء من ذلك ومسهم طائف من الشيطان أغاروا عليه بالشرعة والفطرة فأزالوا موجبه وأثره ، وكمل لهم الرب تعالى ذلك بأقضية يقضيها لهم مما يحبون أو يكرهون تمحص عنهم تلك الآثار التي شوشت الفطرة ، فجاء مقتضى الرحمة فصادف مكانا قابلا مستعدا لها ليس فيه شيء يدافعه فقال هاهنا أمرت .

وليس لله سبحانه غرض في تعذيب عباده بغير موجب كما قال تعالى : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ) ( 4 : 147 ) [ ص: 72 ] واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة ونقلها مما خلقت عليه إلى ضده حتى استحكم الفساد وتم التغيير ، فاحتاجوا في إزالة ذلك إلى تغيير آخر وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم ‌‌‌‌تنقلهم آيات الله المتلوة والمخلوقة وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار ، فأتاح لهم آيات وأقضية وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار ، فإذا زال موجب العذاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له .

فإن قيل : هذا حق ولكن سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضا كمعاصي الموحدين ، أما إذا كان لازما كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في مواضع من كتابه ، منها قوله تعالى : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) ( 6 : 28 ) فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك وأنها غير قابلة للإيمان أصلا . ومنها قوله تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) ( 17 : 72 ) فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل ، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فإن موجبه وأثره ، ومقتضاه لا يفارقهم ، ومنها قوله تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ( 8 : 23 ) وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ، ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره ، ويدل على أنهم لا خير فيهم هناك أيضا قوله : " أخرجوا من النار كل من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من خير " فلو كان عند هؤلاء أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا منها مع الخارجين .

قيل : لعمر الله إن هذا لمن أقوى ما يتمسك به في المسألة ، وإن الأمر لكما قلتم ، وإن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه ، ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا ، وبواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا ، والعذاب مستمر عليهم دائم ما داموا كذلك .

ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمر ذاتي لهم زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال ؟ هذا حرف المسألة وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي . وقد أخبر سبحانه أنه فطر عباده على الحنفية ، وأن الشياطين اجتالتهم عنها ، فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب كما فطر الحيوان البهيم على طبيعته ، وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده ، فإذا كان هذا الحق الذي فطروا عليه وخلقوا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل ، فإمكان زوال الكفر والشرك الباطل بضده [ ص: 73 ] من الحق أولى وأحرى ، ولا ريب أنهم لو ردوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لما نهوا عنه . ولكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تتبدل بنشأة أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم ، فإن العذاب لم يكن سدى وإنما كان لحكمة مطلوبة . فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب ولا غرض يقصد ، والله سبحانه ليس يشتفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه ، وهو لا يعذب عبده لهذا الغرض ، وإنما يعذبه طهرة له ورحمة به فعذابه مصلحة له وإن تألم به غاية التألم ، كما أن عذابه بالحدود في الدنيا مصلحة لأربابها ، وقد سمى الله سبحانه الحد عذابا وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داء دواء يناسبه ، ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية ، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كيا بعد كي . ليخرج منه المادة الردية الطارئة على الطبيعة المستقيمة ، وإن رأى قطع العضو أصلح للعليل قطعه وأذاقه أشد الألم ، فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طرأت على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد ، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته .

وإذا تأمل اللبيب شرع الرب وقدره في الدنيا وثوابه وعقابه في الآخرة وجد ذلك في غاية التناسب والتوافق وارتباط ذلك بعضه ببعض ; فإن مصدر الجميع عن علم تام ، وحكمة بالغة ، ورحمة سابغة ، وهو سبحانه الملك الحق المبين وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل .

الوجه التاسع - أن عقوبته للعبد ليست لحاجته إلى عقوبته ، ولا لمنفعة تعود إليه ، ولا لدفع مضرة وألم يزول عنه بالعقوبة ، بل يتعالى عن ذلك ويتنزه كما يتعالى عن سائر العيوب والنقائص . ولا هي عبث محض خال عن الحكمة والغاية الحميدة فإنه أيضا يتنزه عن ذلك ويتعالى عنه ، فإما أن يكون من تمام نعيم أوليائه وأحبائه ، وإما أن يكون من مصلحة الأشقياء ومداواتهم ، أو لهذا ولهذا ، وعلى التقارير الثلاثة فالتعذيب أمر مقصود لغيره قصد الوسائل لا قصد الغايات ، والمراد من الوسيلة إذا حصل على الوجه المطلوب زال حكمها ، ونعيم أوليائه ليس متوقفا في أصله ولا في كماله على استمرار عذاب أعدائه ودوامه . ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام والاستمرار وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية