صفحة جزء
الوجه العاشر - أن رضاء الرب تبارك وتعالى ورحمته صفتان ذاتيتان له فلا منتهى لرضاه ، بل كما قال أعلم الخلق به " سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة [ ص: 74 ] عرشه ومداد كلماته " فإذا كانت رحمته غلبت غضبه فإن رضى نفسه أعلى وأعظم ، فإن رضوانه أكبر من الجنات ونعيمها وكل ما فيها ، وقد أخبر عن أهل الجنة أنه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا . وأما غضبه تبارك وتعالى وسخطه فليس من صفاته الذاتية التي يستحيل انفكاكه عنها بحيث لم يزل ولا يزال غضبان ، والناس لهم فيصفة الغضب قولان : ( أحدهما ) أنه من صفاته الفعلية القائمة به كسائر أفعاله . ( والثاني ) أنه صفة فعل منفصل عنه غير قائم به . وعلى القولين فليس كالحياة والعلم والقدرة التي يستحيل مفارقتها له ، والعذاب إنما ينشأ من صفة غضبه وما سعرت النار إلا بغضبه ، وقد جاء في أثر مرفوع : ( إن الله خلق خلقا من غضبه وأسكنهم بالمشرق وينتقم بهم ممن عصاه ) فمخلوقاته سبحانه نوعان : نوع مخلوق من الرحمة وبالرحمة ، ونوع مخلوق من الغضب وبالغضب ، فإنه سبحانه له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي يتنزه عن تقدير خلافه ، ومنه أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل وينتقم ويعفو ، بل هذا موجب ملكه الحق وهو حقيقة الملك المقرون بالحكمة والرحمة والحمد ، فإذا زال غضبه سبحانه وتبدل برضاه زالت عقوبته وتبدلت برحمته فانقلبت العقوبة رحمة ، بل لم تزل رحمة وإن تنوعت صفتها وصورتها كما كان عقوبة العصاة رحمة وإخراجهم من النار رحمة ، فتقلبوا في رحمته في الدنيا وتقلبوا فيها في الآخرة ، لكن تلك الرحمة يحبونها وتوافق طبائعهم ، وهذه رحمة يكرهونها وتشق عليهم كرحمة الطبيب الذي يبضع لحم المريض ويلقي عليه المكاوي ليستخرج منه المواد الردية الفاسدة .

فإن قيل : هذا اعتبار غير صحيح ، فإن الطبيب يفعل ذلك بالعليل وهو يحبه وهو راض عنه ، ولم ينشأ فعله به عن غضبه عليه وهذا لا يسمى عقوبة ، وأما عذاب هؤلاء فإنه إنما حصل بغضبه سبحانه عليهم وهو عقوبة محضة . ( قيل ) : هذا حق ولكن لا ينافي كونه رحمة بهم وإن كان عقوبة لهم ، وهذا كإقامة الحدود عليهم في الدنيا فإنه عقوبة ورحمة وتخفيف وطهرة فالحدود طهرة لأهلها وعقوبة ، وهم لما أغضبوا الرب تعالى وقابلوه بما لا يليق أن يقابل به وعاملوه أقبح المعاملة ، وكذبوه وكذبوا رسله ، وجعلوا أقل أهله وأخبثهم وأمقتهم له ندا له وآلهة معه ، وآثروا رضاءهم على رضاه وطاعتهم على طاعته - وهو ولي الإنعام عليهم وهو خالقهم ورازقهم ومولاهم الحق - اشتد مقته لهم وغضبه عليهم ، وذلك يوجب كمال أسمائه وصفاته التي يستحيل عليه تقدير خلافها ويستحيل عليه تخلف آثارها ومقتضاها عنها ، بل ذلك تعطيل لأحكامها ، كما أن نفيها عنه تعطيل لحقائقها ، وكلا التعطيلين محال عليه سبحانه . فالمعطلون نوعان : أحدهما عطل صفاته ، والثاني عطل أحكامه وموجباتها ، وكان هذا العذاب عقوبة لهم من هذا الوجه ودواء لهم من وجهة الرحمة [ ص: 75 ] السابقة للغضب فاجتمع فيه الأمران ، فإذا زال الغضب بزوال سببه وزالت المادة الفاسدة بتغيير الطبيعة المقتضية لها في الجحيم بمرور الأحقاب عليها ، وحصلت الحكمة التي أوجبت العقوبة عملت الرحمة عملها وطلبت أثرها من غير معارض .

( يوضحه الوجه الحادي عشر ) وهو أن العفو أحب إليه سبحانه من الانتقام ، والرحمة أحب إليه من العقوبة ، والرضا أحب إليه من الغضب ، والفضل أحب إليه من العدل ، ولهذا ظهرت آثار هذه المحبة في شرعه وقدره ، ويظهر كل الظهور لعباده في ثوابه وعقابه ، وإذا كان ذلك أحب الأمرين إليه وله خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع ، وقدرته سبحانه صالحة لكل شيء لا قصور فيها بوجه ما ، وتلك المواد الردية الفاسدة مرض من الأمراض وبيده سبحانه الشفاء التام والأدوية الموافقة لكل داء ، وله القدرة التامة والرحمة السابغة والغنى المطلق ، وبالعبد أعظم حاجة إلى من يداوي علته التي بلغت به غاية الضرر والمشقة ، وقد عرف العبد أنه عليل وأن دواءه بيد الغني الحميد فتضرع إليه ودخل به عليه ، واستكان له وانكسر قلبه بين يديه وذل لعزته ، وعرف أن الحمد كله له وأن الخلق كله له ، وأنه هو الظلوم الجهول ، وأن ربه - تبارك وتعالى - عامله بكل عدله لا ببعض عدله ، وأن له غاية الحمد فيما فعل به ، وأن حمده هو الذي أقامه في هذا المقام وأوصله إليه ، وأنه لا خير عنده من نفسه بوجه من الوجوه ، بل ذلك محض فضل الله وصدقته عليه ، وأنه لا نجاة له مما هو فيه إلا بمجرد العفو والتجاوز عن حقه فنفسه أولى بكل ذم وعيب ونقص ، وربه تعالى أولى بكل حمد وكمال ومدح ، فلو أن أهل الجحيم شهدوا نعمته سبحانه ورحمته وكماله وحمده الذي أوجب لهم ذلك فطلبوا مرضاته ولو بدوامهم في تلك الحال ، وقالوا : إن كان ما نحن فيه رضاك فرضاك الذي نريد ، وما أوصلنا إلى هذه الحال إلا طلب ما لا يرضيك ، فأما إذا أرضاك هذا منا فرضاك غاية ما نقصده ( وما لجرح إذا أرضاك من ألم ) وأنت أرحم بنا من أنفسنا وأعلم بمصالحنا ، ولك الحمد كله عاقبت أو عفوت ، لانقلبت النار عليهم بردا وسلاما ( وقد روى الإمام أحمد ) في مسنده من حديث الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يأتي أربعة يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك من رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " ( وفي المسند أيضا ) [ ص: 76 ] من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة مثله وقال : " فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها " فهؤلاء لما رضوا بتعذيبهم وبادروا إليه لما علموا أن فيه رضى ربهم وموافقة أمره ومحبته انقلب في حقهم نعيما . ( ومثل هذا ) ما رواه عبد الله بن المبارك : حدثني رشدين قال حدثني ابن أنعم عن أبي عثمان أنه حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن رجلين ممن دخل النار يشتد صياحهما ؟ فقال الرب جل جلاله : أخرجوهما فإذا أخرجا فقال لهما : لأي شيء اشتد صياحكما قالا : فعلنا ذلك لترحمنا . قال : رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار ، قال فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها الله سبحانه عليه بردا وسلاما ، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه فيقول له الرب : ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك ؟ فيقول : رب إني أرجوك ألا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني منها . فيقول الرب تعالى : لك رجاؤك . فيدخلان الجنة جميعا برحمة الله " . ( وذكر الأوزاعي ) عن بلال بن سعد قال : يؤمر بإخراج رجلين من النار فإذا أخرجا ووقفا قال الله لهما : كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما ؟ فيقولان شر مقيل وأسوأ مصير صار إليه العباد ، فيقول لهما : ذلك بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد . قال فيؤمر بصرفهما إلى النار ، فأما أحدهما فيغدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها وأما الآخر فيتلكأ فيؤمر بردهما فيقول للذي غدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها ما حملك على ما صنعت وقد أخرجت منها ؟ فيقول : إني خبرت من وبال معصيتك ما لم أكن أتعرض لسخطك ثانيا ، ويقول للذي تلكأ : ما حملك على ما صنعت ؟ فيقول : حسن ظني بك حين أخرجتني منها ألا تردني إليها فيرحمهما جميعا ويأمر بهما إلى الجنة .

الوجه الثاني عشر - أن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه ; ولذلك يضيف ذلك إلى نفسه ، وأما العذاب والعقوبة فإنما هو من مخلوقاته ; ولذلك لا يسمى بالمعاقب والمعذب ، بل يفرق بينهما فيجعل ذلك من أوصافه وهذا من مفعولاته حتى في الآية الواحدة كقوله تعالى : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ) ( 15 : 49 ، 50 ) وقال تعالى : ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) ( 5 : 98 ) وقال تعالى : ( إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) ( 7 : 167 ) ومثلها في آخر الأنعام .

فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوبا له ، وهو غاية مطلوبة في نفسها .

[ ص: 77 ] وأما الشر الذي هو العذاب فلا يدخل في أسمائه وصفاته ، وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني ، بخلاف الخير فإنه سبحانه دائم المعروف لا ينقطع معروفه أبدا وهو قديم الإحسان أبدي الإحسان ، فلم يزل ولا يزال محسنا على الدوام وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لا يزال معاقبا على الدوام ، غضبان على الدوام ، منتقما على الدوام ، فتأمل هذا الوجه تأمل فقيه في باب أسماء الله وصفاته يفتح لك بابا من أبواب معرفته ومحبته .

يوضحه الوجه الثالث عشر - وهو قول أعلم خلقه به وأعرفهم بأسمائه وصفاته " والشر ليس إليك " ولم يقف على المعنى المقصود من قال الشر لا يتقرب به إليك . بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه ، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه ، وصفاته كلها صفات كمال يحمد عليها ويثنى عليه بها ، وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل وحكمة لا شر فيها بوجه ما ، وأسماءه كلها حسنى ، فكيف يضاف الشر إليه ؟ بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه ، إذ فعله غير مفعوله ، ففعله خير كله ، وأما المخلوق المفعول ففيه الخير والشر ، وإذا كان الشر مخلوقا منفصلا غير قائم بالرب سبحانه فهو لا يضاف إليه ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل أنت لا تخلق الشر حتى يطلب تأويل قوله ، وإنما نفى إضافته إليه وصفا وفعلا واسما ، وإذا عرف هذا فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها ، وأما الخير فهو الإيمان والطاعات وموجباتها والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه ; ولأجلها خلق خلقه وأرسل رسله وأنزل كتبه ، وهي ثناء على الرب وإجلاله وتعظيمه وعبوديته ، وهذه لها آثار ‌تطلبها وتقتضيها فتدوم آثارها بدوام متعلقها . وأما الشرور فليست مقصودة لذاتها ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق ، فهي مفعولات قدرت لأمر محبوب وجعلت وسيلة إليه ، فإذا حصل ما قدرت له اضمحلت وتلاشت وعاد الأمر إلى الخير المحض .

الوجه الرابع عشر - أنه سبحانه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء ، فليس شيء من الأشياء إلا وفيه رحمته ، ولا ينافي هذا أن يرحم العبد بما يشق عليه ويؤلمه وتشتد كراهته له ; فإن ذلك من رحمته أيضا كما تقدم ، وقد ذكرنا حديث أبي هريرة آنفا وقوله تعالى لذينك الرجلين ، رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار .

وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا دعا لمبتلى قد اشتد بلاؤه وقال : اللهم ارحمه - [ ص: 78 ] يقول الرب تبارك وتعالى : " كيف أرحمه من شيء به أرحمه " فالابتلاء رحمة منه لعباده ( وفي أثر إلهي ) يقول الله تعالى : " أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب ، لأطهرهم من المعايب " فالبلاء والعقوبة أدوية قدرت لإزالة أدواء لا تزول إلا بها والنار هي الدواء الأكبر ، فمن تداوى في الدنيا أغناه ذلك عن الدواء في الآخرة ، وإلا فلا بد له من الدواء بحسب دائه . ومن عرف الرب تبارك وتعالى بصفات جلاله ونعوت كماله من حكمته ورحمته وبره وإحسانه وغناه وجوده ، وتحببه إلى عباده وإرادته الإنعام عليهم وسبق رحمته لهم ، لم يبادر إلى إنكار ذلك إن لم يبادر إلى قبوله .

يوضحه ( الوجه الخامس عشر ) أن أفعاله سبحانه لا تخرج عن الحكمة والرحمة والمصلحة والعدل ، فلا يفعل عبثا ولا جورا ولا باطلا ، بل هو المنزه عن ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص .

وإذا ثبت ذلك فتعذيبهم إن كان رحمة بهم حتى يزول ذلك الخبث وتكمل الطهارة فظاهر . وإن كان لحكمة فإذا حصلت تلك الحكمة المطلوبة زال العذاب . وليس في الحكمة دوام العذاب أبد الآباد بحيث يكون دائما بدوام الرب تبارك وتعالى ، وإن كان لمصلحة فإن كان يرجع إليهم فليست مصلحتهم في بقائهم في العذاب كذلك ، وإن كانت المصلحة تعود إلى أوليائه فإن ذلك أكمل في نعيمهم فهذا لا يقتضي تأبيد العذاب ، وليس نعيم أوليائه وكماله موقوفا على بقاء آبائهم وأبنائهم وأزواجهم في العذاب السرمد . فإن قلتم إن ذلك هو موجب الرحمة والحكمة والمصلحة قلتم ما لا يعقل ، وإن قلتم إن ذلك عائد إلى محض المشيئة ولا تطلب له حكمة ولا غاية فجوابه من وجهين : ( أحدهما ) أن ذلك محال على أحكم الحاكمين وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن الحكم والمصالح والغايات المحمودة . والقرآن والسنة وأدلة العقول والفطر والآيات المشهودة شاهدة ببطلان ذلك . ( والثاني ) أنه لو كان الأمر كذلك لكان إبقاؤهم في العذاب وانقطاعه عنهم بالنسبة إلى مشيئته سواء ، ولم يكن في انقضائه ما ينافي كماله ، وهو سبحانه لم يخبرنا بأبدية العذاب وأنه [ ص: 79 ] لا نهاية له ، وغاية الأمر على هذا التقدير أن يكون من الجائزات الممكنات الموقوف حكمها على خبر الصادق ، فإن سلكت طريق التعليل بالحكمة والرحمة والمصلحة لم يقتض الدوام ، وإن سلكت طريق المشيئة المحضة التي لا تعلل لم تقتضه أيضا ، وإن وقف الأمر على مجرد السمع فليس فيه ما يقتضيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية