صفحة جزء
( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون )

[ ص: 395 ] وإن لم يشرب فالعاصي ينجو بصلاح والده . والآيات التي تؤيد هذه الآية كثيرة جدا ، فهي أصل من أصول الدين الإلهي لا يفيد معها تأويل المغرورين ولا غرور الجاهلين ، بين في هذه الآيات السابقة حقيقة ملة إبراهيم في سياق دعوة العرب إلى الإسلام ، ثم أشرك معهم أهل الكتاب لأنهم أقرب إلى الإيمان بإبراهيم وأجدر بإجلاله واتباعه ، وانتقل الكلام بهذه المناسبة إلى بيان وحدة الدين الإلهي واتفاق النبيين في جوهره ، وبيان جهل أهل الكتاب بهذه الوحدة ، وقصر نظرهم على ما يمتاز به كل دين من الفروع والجزئيات ، أو التقاليد التي أضافوها على التوراة والإنجيل ، فبعد بها كل فريق من الآخر أشد البعد ، وصار الدين الواحد كفرا وإيمانا ، كل فريق من أهله يحتكر الإيمان لنفسه ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد ، وإن كان نبيهم واحدا وكتابهم واحدا .

فقوله - تعالى - : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) بيان لعقيدة الفريقين في التفرق في الدين ، والضمير في ( وقالوا ) لأهل الكتاب و ( أو ) للتوزيع أو التنويع ، أي إن اليهود يدعون إلى اليهودية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها ، والنصارى يدعون إلى النصرانية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها - وهذا الأسلوب معهود في اللغة - ولو صدق أي واحد منهما لما كان إبراهيم مهتديا ؛ لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، وكيف وهم متفقون على كونه إمام الهدى والمهتدين ؛ لذلك قال - تعالى - ملقنا لنبيه البرهان الأقوى في محاجتهم ( قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) أي بل نتبع أو اتبعوا ملة إبراهيم الذي لا نزاع في هداه ولا في هديه ، فهي الملة الحنيفية القائمة على الجادة بلا انحراف ولا زيغ ، العريقة في التوحيد والإخلاص بلا وثنية ولا شرك .

والحنيف في اللغة : المائل ، وإنما أطلق على إبراهيم ؛ لأن الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهي الكفر ، فخالفهم كلهم وتنكب طريقتهم ، ولا يسمى المائل حنيفا إلا إذا كان الميل عن الجادة المعبدة ، وفي الأساس : من مال عن كل دين أعوج ، ويطلق على المستقيم ، وبه فسر الكلمة بعضهم ، أورد له شاهدا من اللغة وهو أقرب . ومن التأويلات البعيدة : ما روي من تفسير الحنيف بالحاج ووجه القول به أنه مما حفظ من دين إبراهيم .

( الأستاذ الإمام ) : قال بعض المشتغلين بالعربية من الإفرنج : إن الحنيفية هي ما كان عليه العرب من الشرك ، واحتجوا على ذلك بقول بعض النصارى في زمن الجاهلية : إن فعلت هذا أكون حنيفيا . وإنها لفلسفة جاءت من الجهل باللغة ، وقد ناظرت بعض الإفرنج في هذا فلم يجد ما يحتج به إلا عبارة ذلك النصراني ، وهو الآن يجمع كل ما نقل عن العرب من هذه المادة لينظر كيف كانوا يستعملونها ، ولا دليل في كلمة النصراني العربي على أن الكلمة تدل لغة على الشرك ، وإنما مراده بكلمته البراءة من دين العرب مطلقا ؛ ذلك أن بعض العرب كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء وينتسبون إلى إبراهيم ويزعمون أنهم على دينه ، وكان الناس يسمونهم الحنفاء أيضا ، والسبب في التسمية والدعوى أن سلفهم كانوا على ملة إبراهيم حقيقة [ ص: 396 ] ثم طرأت عليهم الوثنية فأخذتهم عن عقيدتهم وأنستهم أحكام ملتهم وأعمالها - نسوا بعضها بالمرة وخرجوا ببعض آخر عن أصله ووصفه كالحج ، ونفي الشرك عن إبراهيم في آخر الآية احتراس من وهم الواهمين ، وتكذيب لدعوى المدعين .

أقول : لا بدع أن ينسى الأميون ما كانوا عليه ، فإن أهل الكتاب خرجوا بدينهم عن وضعه الأول فنسوا بعضا وحرفوا بعضا ، وزادوا فيه ونقصوا منه ؛ فاليهود أضافوا التلمود إلى ما عندهم من التوراة ، وسموا مجموع ذلك مع تفاسيره وآراء أحبارهم فيه اليهودية .

وأما النصارى فقد ظهر دينهم بشكل لو رآه الحواريون الذين أخذوا الدين عن المسيح مباشرة لما عرفوا أي دين هو . وهؤلاء المسلمون على حفظ كتابهم في الصدور والسطور يعملون باسم الدين أعمالا يظنها الجاهلون بدينهم أعظم أركان الدين ، وما هي من الدين وإنما هي بدع المضلين ، فالإفرنج يكتبون في رحلاتهم أن رقص المولوية من أعظم العبادات الإسلامية ، وأن ما يكون في جامع القلعة في ليالي المولد والمعراج ونصف شعبان من الرقص والعزف بالطبول والدفوف وغيرها من أهم الشعائر الإسلامية ، وسماها بعضهم ( الصلاة الكبرى ) ولولا أن القرآن محفوظ وسنة الرسول وسيرة السلف الصالح مدونتان في الكتب لنسينا الأصل واكتفينا بهذه البدع ، فإن مئات الألوف التي تحج إلى مشاهد أهل البيت والجيلاني بالعراق ، والبدوي وأمثاله بمصر كل عام لا يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحج البيت منهم إلا أقلهم ، وهم في عبادتهم الباطلة أخشع منهم في عبادتهم المشروعة ، ولكن الله أراد بقاء هذا الدين وحفظه وسيرجع إلى كتابه الراجعون ، ويهتدي به المهتدون ولو كره المقلدون ، وعند ذلك تنقشع ظلمات هذه البدع التي هم فيها يتخبطون .

وقد توهم بعض العلماء أن هذا الجواب ( بل ملة إبراهيم ) . . . إلخ جاء على طريقة الإقناع وليس حجة حقيقية ، ووجهوه بقولهم : إن أهل الكتاب يعاندون الحق ويكابرون في معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر الله نبيه بأن يلزمهم بالدلائل الإقناعية التي لا يقدرون على مكابرتها والمراء فيها . والحق أن هذا الجواب حجة حقيقية ، وقد أشرنا إلى وجهها الوجيه أول الكلام في تفسير الآية . وقد تجرأ كثير من العلماء على مثل هذا الكلام في كثير من الآيات التي احتج بها القرآن حتى في إثبات الوحدانية ، والسبب في ذلك افتتانهم بالطريقة النظرية التي أخذوها عن كتب اليونان ، ولقد اهتدى بحجج القرآن الألوف وألوف الألوف ، وقلما اهتدى بتلك الأدلة النظرية المحضة أحد من الناس ، وإنما تفيد في وقوع شبهاتهم التي يوردونها على العقائد ، ولا فائدة فيها سوى المراء والجدل ، وقد محيت في عصرنا تلك الشبهات ، ورغب الناس عن هاتيك النظريات ، وقام بناء العلم على أسس الوقائع والحوادث والمجربات .

وقال ( الجلال ) : إن الآية نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران ، فهم القائلون ما ذكر [ ص: 397 ] والتحقيق أن الآية في بيان طبيعة أهل الملتين كما تقدم ، وقول يهود المدينة ونصارى نجران ما ذكر - إن صح - لا يقتضي التخصيص ، فإنهم ما قالوا إلا ما هو لسان حال ملتهم . وغيرهم يقول مثل قولهم ، أو يصدق القائلين باعتقاده وسيرته .

أمر الله النبي بأن يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم ، ثم أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ) أي لا تكن دعوتكم إلى شيء خاص بكم يفصل بينكم وبين سائر أهل الأديان السماوية ، بل انظروا إلى جهة الجمع والاتفاق ، وادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع ، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين ، مع الإسلام لرب العالمين ، لا نعبد إلا الله ، ولا نفرق بين أحد من رسل الله .

والأسباط أولاد يعقوب ، والفرق أو الشعوب الإثنى عشر المتشعبة منهم . قال - تعالى - : ( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ) ( 7 : 160 ) وقد ورد أن أولاد يعقوب كانوا أنبياء ولم يرد أنهم كانوا مرسلين ، فإن صح هذا كما يفهم من إطلاق الأستاذ الإمام في الدرس ، فالمراد بالأسباط الإطلاق الأول ، وإلا كان في الكلام تقدير مضاف ، أي أنبياء الأسباط ، كأنه قال : وسائر أنبياء بني إسرائيل وهو المختار ، ولم يصح في نبوة غير يوسف من أبناء يعقوب شيء .

( وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ) قال الأستاذ الإمام : وهاهنا نكتة دقيقة في اختلاف التعبير عن الوحي الذي منحه الله الأنبياء إذ عبر بأنزل تارة وبأوتي تارة أخرى ، وهي أن التعبير بأنزل ذكر هنا في جانب الأنبياء الذين ليس لهم كتب تؤثر ، ولا صحف تنقل ، وذلك أن إنزال الوحي على نبي لا يستلزم إعطاءه كتابا يؤثر عنه ، وهذا ظاهر إذا كان النبي غير مرسل فإن الوحي إليه يكون خاصا به ، ويكون إرشاده للناس أن يعملوا بشرع رسول آخر إن كان بعث فيهم رسول وإلا كان قدوة في الخير ومعدا للنفوس لبعثة نبي مرسل ، وأما النبي المرسل فقد يؤمر بالتبليغ الشفاهي ولا يعطى كتابا باقيا ، وقد يكتب ما يوحى إليه في عصره فيضيع من بعده ، فهؤلاء الرسل الكرام الذين عبر عنهم بقوله : ( وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ) لا يؤثر عن أحد منهم كتاب مسند صحيح ولا غير صحيح ، وأننا نؤمن بأنهم كانوا أنبياء ، وأن ما نزل عليهم هو دين الله الحق ، وأنه موافق في جوهره وأصوله لما أنزل على من بعدهم . وما ذكر الله من ملة إبراهيم بالنص هو روح ذلك الوحي كله ، وقد جاء في سورة النجم وسورة الأعلى ذكر صحف لإبراهيم . وقال ( الجلال ) هنا : إنها عشر ، فنؤمن أنه كان له صحف ولا نزيد على ما ورد شيئا ، وأما إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط فلم يثبت أن لهم صحفا ولا كتبا ، فنؤمن بما أنزل إليهم بالإجمال ونعتقد أنه عين [ ص: 398 ] ملة إبراهيم ، وجاء التعبير عن وحي الذين كان لهم كتب تؤثر بقوله : ( وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ) فهو يشير بالإيتاء إلى أن ما أوحي إليهم له وجود يمكن الرجوع إليه والنظر فيه ، فإن أقوامهم يأثرون عنهم كتبا .

وأقول الآن : إن المراد الإيمان بما أنزل الله - تعالى - وما أعطاه لأولئك النبيين والمرسلين إجمالا ، وأنه كان وحيا من الله فلا نكذب أحدا منهم بما ادعاه ودعا إليه في عصره ، بصرف النظر عما طرأ عليه من ضياع بعضه وتحريف بعض ، فإن ذلك لا يضرنا ؛ لأن الإيمان التفصيلي والعمل مقصور على ما أنزل إلينا ، فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة ( ( أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا ( آمنا بالله ) الآية ) )

وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن معقل بن يسار مرفوعا ( ( آمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وليسعكم القرآن ) ) وأما ما ذكره شيخنا من نكتة اختلاف التعبير فيشكل بقوله في أول الآية : ( وما أنزل إلينا ) أي معشر المسلمين وهو القرآن وقوله بعد : ( وما أوتي النبيون ) ولم يعلم أنه كان لغير داود منهم كتاب منزل ، على أن عدم العلم بكتب أنزلت على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق لا يدل على عدم تلك الكتب ، ولعل نكتة اختلاف التعبير أن يشمل ما أوتي موسى وعيسى تلك الآيات التي أيدهما بها كما قال : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) ( 17 : 101 ) وقال : ( وآتينا عيسى بن مريم البينات ) ( 2 : 87 ) ثم قال : ( وما أوتي النبيون من ربهم ) ليدل على أن ذلك لم يكن خاصا بموسى وعيسى والله أعلم .

وقال بعد ما ذكر الفريقين : ( لا نفرق بين أحد من رسله ) أي سواء منهم من له كتاب يؤثر ومن ليس له ذلك ، نؤمن بالجميع إجمالا ونأخذ التفصيل عن خاتمهم الذي بين لنا أصل ملتهم التي كانوا عليها وزادنا من الحكم والأحكام ما يناسب هذا الزمان وما بعده من الأزمان ، والعمدة في الدين على إسلام القلب لله - تعالى - ( ونحن له مسلمون ) : أي مذعنون منقادون كما يقتضي الإيمان الصحيح ولستم كذلك أهل الكتاب ، وإنما أنتم متبعون لأهوائكم وتقاليدكم لا تحولون عنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية