1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأنعام
  4. تفسير قوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
صفحة جزء
( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ) هذه الجملة معطوفة على الجملة الحالية قبلها ، لأنها معللة للإنكار ومقررة للتوحيد مثلها ، وهي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله كما قال في سورة النجم : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ( 53 : 36 - 39 ) وهي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم ، لأنها هادمة لأساس الوثنية ، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية ( وهو عملهم ) وقد بينا مرارا أن أساس الوثنية طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب ، هي عبارة عن وساطة بعض المخلوقات العظيمة - الممتازة ببعض الخواص والمزايا - بين الناس وبين ربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا من ذلك بدون كسب ولا سعي إليه من طريق الأسباب التي جرت بها سنته تعالى في خلقه ، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبهم تعالى بها ، أو يحملوا الباري تعالى على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها ، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها ، أي على إبطال سنته وتبديلها في أمثالهم ، أو تحويلها عنهم إلى غيرهم ، وإن قال في كتابه : ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( 35 : 43 ) .

فمعنى الجملتين : ولا تكسب كل نفس عاملة مكلفة إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها ، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس أخرى ، بل كل نفس إنما تحمل وزرها وحدها ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ( 2 : 286 ) دون ما كسب أو اكتسب غيرها . والوزر في اللغة الحمل الثقيل ، ووزره يزره - حمله يحمله . قال ابن عباس في تفسير الجملتين بحاصل المعنى : لا يحمل أحد ذنب غيره ، فالدين قد علمنا أن نجري على ما أودعته الفطرة من أن سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم ، وأن عمل كل نفس يؤثر فيها التأثير الحسن الذي يزكيها إن كان صالحا ، أو التأثير السيئ الذي يدسيها ويفسدها إن كان فاسدا ، وأن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره من حيث هو عمل غيره ، وأما من كان قدوة صالحة في عمل أو معلما له ، فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله وفعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل ، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالا عليه ومغريا به ، فإن عليه مثل إثم من أفسدهم كذلك ، وكل من هذا وذاك يعد من عمل الهادين والمضلين ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله : " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في [ ص: 218 ] الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الملك البجلي والترمذي بلفظ " من سن سنة خير . . . ومن سن سنة شر . . . " وبهذا يعلم أنه لا تعارض بين الآية وما في معناها وبين قوله تعالى في المضلين من الناس : ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) ( 16 : 25 ) وقوله فيهم : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) ( 29 : 13 ) .

ولكن أشكل في هذا الباب حديث " إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه " رواه الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا من عدة طرق وهذا لفظ البخاري في أحد طرقه وليس في سائرها ، ذكر " ببعض " والمراد من النياحة كما صرح به في بعض الروايات عنه وعن أبيه ، وورد التصريح بعدم المؤاخذة بالبكاء المجرد ، وقد أوله بعضهم بأنه إنما يعذب بما نيح عليه إذا أوصى أهله به وكان ممن يرضى به ، ويحتمل أن يكون المراد بتعذيب الميت بنواح الحي عليه أن يشعر ببكائه فيؤلمه ذلك ، لا أن الله تعالى يعذبه به ويؤاخذه عليه والله أعلم .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال : توفيت أم عمرو بنت أبان بن عثمان فحضرت الجنازة فسمع ابن عمر بكاء فقال : ألا تنهى هؤلاء عن البكاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه " فأتيت عائشة فذكرت لها ذلك فقالت : والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطئ ، وفي القرآن ما يكفيكم ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) اهـ . وكانت عائشة ترد كل ما يروى لها مخالفا للقرآن وتحمل رواية الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم - ولكن العلماء قصروا في إعلال الأحاديث بمثل هذا مع أن مخالفة الرواية الآحادية للقطعي كالقرآن من علامة وضع الحديث عندهم .

ومما ينتفع به المرء من عمل غيره من حيث يعد من قبيل عمله لأنه كان سببا له : دعاء أولاده له ، أو حجهم وتصدقهم عنه ، وقضاؤهم لصومه ، كما ثبت في الصحاح ، وهو داخل في حديث " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة ، وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم بنص القرآن ، وصح في الحديث أن ولد الرجل من كسبه . ومن قال بانتفاع الميت من كل عمل له وإن لم يكن العامل ولده فقد خالف القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح . أما الحديث فقد صح فيه الإذن بالصدقة عن الوالدين في الصحيحين والسنن ، وبالصيام والحج المنذرين منهما أو المفروضين من حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما ، وفيهما من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه ، وقد شبه صلى الله عليه [ ص: 219 ] وسلم الصيام والحج الواجبين بقضاء دين العبادة عنهما ، وأن دين الله أحق بأن يقضى . وقد روي هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ مختلفة في السائل ، فقيل : رجل . وقيل : امرأة من جهينة هو الصحيح . وفي المسئول عنه ، فقيل : أب . وقيل : أخت . وقيل : أم وهو الصحيح ، وفي المسئول فيه هل هو الصيام أو الحج ، ولا تنافي بينهما لجواز الجمع بينهما ، وتدل عليه رواية لمسلم ، وذكر الراوي وهو ابن عباس لكل منهما في وقت لاقتضاء المقام لذلك ; ولهذا الخلاف قال بعض العلماء : إن الحديث مضطرب لا يحتج به ، ولكن حديث عائشة لا اضطراب فيه ، وقد اختلفوا في الولي فيه ، فقيل : كل قريب . وقيل الوارث . وقيل : العصبة . والراجح المختار أنه الولد لينطبق على الآيات والأحاديث الأخرى . ومن أصولهم أن العبادات البدنية لا تصح النيابة فيها في الحياة ولا بعد الممات .

ومذهب أشهر أئمة الفقه أنه لا يصام عن الميت مطلقا ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والإمام زيد بن علي والهادوية والقاسم بن العترة . وحصر أحمد وآخرون الجواز بالنذر عملا بحديث ابن عباس ويلزمه أن يكون من يصوم عن الميت ولده لأن الرواية وردت بذلك ، وما روي في بعض طرقها من ذكر الأخت غلط ظاهر لمخالفته للطريق الصحيح وللآيات والأحاديث ، وحديث ابن عباس الموقوف أو فتواه التي رواها النسائي بسند صحيح " لا يصلي أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد " ومثله عن عائشة ، وقد جعل الحنفية فتوى ابن عباس مانعة من العمل بحديثه على مذهبهم في ذلك ، وهو أن العالم الصحابي لا يخالف روايته إلا إذا كان لديه ما يمنع العمل بها ككونها منسوخة ، ومذهب غيرهم من أهل الأصول والحديث أن الحجة برواية الصحابي لا برأيه ، فإنه قد يترك العمل بالرواية سهوا أو نسيانا أو تأولا على أنه غير معصوم من تركه عمدا . وعندنا أنه لا تعارض بين قولي ابن عباس وعائشة وروايتهما ; لأن قولهما أو فتواهما بألا يصلي ولا يصوم أحد عن أحد هو أصل الشريعة العام في جميع الناس ، إلا ما استثني بالنص من صيام الولد أو حجه أو صدقته عن والديه ، ولا سيما إذا كان ذلك حقا ثابتا بأصل الشرع ، أو بنذر ، أو إرادة وصية كما كانت الحال في وقائع فتوى النبي صلى الله عليه وسلم لأولئك الأولاد . فلا محل إذا لتخريج الحنفية ولا الجمهور في المسألة ، وكتاب الله فوق كل شيء .

وأما قياس عمل غير الولد على عمله فباطل ، لمخالفته للنص القطعي على كونه قياسا مع الفارق ، وقد غفل عن هذا من عودونا استدراك مثله على المتقدمين ، كشيخي الإسلام والشوكاني من فقهاء الحديث المستقلين .

فعلم مما شرحناه أن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها [ ص: 220 ] إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقات على ذلك بدع غير مشروعة ، ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ، ولو كان لها أصل في الدين لما جهلها السلف ، ولو علموها لما أهملوا العمل بها ، وليس هذا من قبيل ما لا شك في جوازه ، ووقوعه في كل زمن من فتح الله على بعض الناس بما لم يؤثر عمن قبلهم من حكم الدين وأسراره والفهم في كتابه - كما قال أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه : إلا أن يؤتي الله عبده فهما في القرآن - بل هو من العبادات العملية التي يهتم الناس بأمرها في كل زمان ولو فعلها الصحابة لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أو الاستفاضة .

التالي السابق


الخدمات العلمية