( 
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى   ) ؟ 
قال الأستاذ الإمام : إن ( أم ) هنا معادلة لما قبلها خلافا ( للجلال ) ومن على رأيه القائلين : إنها بمعنى بل ، كأنه قال : أتقولون : إن هذا الامتياز لكم علينا والاختصاص بالقرب من الله دوننا هو من الله ، والحال أنه ربنا وربكم . . . إلخ ؟ أم تقولون : إن امتياز اليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها بأن 
إبراهيم  وإسماعيل  وإسحاق  ويعقوب  والأسباط كانوا عليها ؟ إن كنتم تقولون هذا فإن الله يكذبكم فيه ، وأنتم تعلمون أيضا أن اسمي اليهودية والنصرانية حدثا بعد هؤلاء ، بل حدث اسم اليهودية بعد 
موسى  ، واسم النصرانية بعد 
عيسى  ، كما حدث 
لليهود  تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم . وأما 
النصارى  فجميع تقاليدهم الخاصة بهم المميزة للنصرانية حادثة ، فإن 
عيسى    - عليه السلام - كان عدو التقاليد ، ولهذا كان 
النصارى  على كثرة ما أحدثوا أقرب إلى الإسلام ؛ لأنهم لم ينسوا جميعا كيف زلزل ( روح الله ) تقاليد 
اليهود  الظاهرة ما كان منها في التوراة وما لم يكن ، ولكن الذين ادعوا اتباعه زادوا عليهم من بعده في ابتداع التقاليد والرسوم . 
وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في الرد على 
اليهود  ، إذ كانوا يقولون : إن 
إبراهيم  كان يهوديا ، وعلى 
النصارى  إذ كانوا يقولون : إنه كان نصرانيا ، قال الأستاذ الإمام : وهذا غير صحيح . كلا إن الآية نزلت في إقامة الحجة عليهم بأنهم يعتقدون أن 
إبراهيم  كان على الحق وأن ملته هي الملة الإلهية المرضية عند الله - تعالى - وإذا كان الأمر كذلك وكانت هذه التقاليد التي تقلدوها غير معروفة على عهد 
إبراهيم  فما بالهم صاروا ينوطون النجاة بها ، ويزعمون أن ما عداها كفر وضلال ؟ فهو لا يثبت لهم القول بأن 
إبراهيم  كان يهوديا أو نصرانيا ، وإنما يقول : إنهم لا يقدرون على القول بذلك لأن البداهة قاضية بكذبهم فيه ، ولذلك قال   
[ ص: 403 ] لنبيه ( 
قل أأنتم أعلم أم الله   ) أي إذا كان الله قد ارتضى للناس ملة 
إبراهيم  باعترافكم وتصديق كتبكم ، وذلك قبل وجود اليهودية والنصرانية ، فلماذا لا ترضون أنتم تلك الملة لأنفسكم ؟ أأنتم أعلم بالمرضي عند الله أم الله أعلم بما يرضيه وما لا يرضيه ؟ لا شك أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون . 
وقد صرح 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري  بأن قراءة ( أم يقولون ) بالتحتية شاذة ، وعلى القول بأنها سبعية يكون في الكلام التفات . ( وأقول ) : قراءة التاء هي 
لابن عامر  وحمزة   nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي  وحفص  ، وهي للخطاب ، وقراءة الياء للباقين ، فلا عبرة بعد 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير  إياها شاذة . 
( 
ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله   ) ؟ في هذا الاستفهام وجهان : 
أحدهما : أنه متمم لما قبله من إقامة الحجة بملة 
إبراهيم  ، يقول : إن عندكم شهادة من الله بأن 
إبراهيم  كان على حق ، وكان مرضيا عند الله - تعالى - فإذا كتمتم ذلك لأجل الطعن بالإسلام ، فقد كتمتم شهادة الله ، وكنتم أظلم الظالمين ، وإذا اعترفتم به فإما أن تقولوا : إنكم أنتم أعلم من الله بما يرضيه ، وإما أن تقوم عليكم الحجة وتحق عليكم الكلمة إن لم تؤمنوا بما تدعون إليه من ملة 
إبراهيم  ، وأحد الأمرين ثابت ، لا يقبل مراوغة مباهت . 
والوجه الثاني - وهو أظهر - أن الشهادة المكتومة هي شهادة الكتاب المبشرة بأن الله يبعث فيهم نبيا من بني إخوتهم ، وهم العرب أبناء 
إسماعيل  ، وكانوا - ولا يزالون - يكتمونها بالإنكار على غير المطلع على التوراة وبالتحريف على المطلع ، فهو يبين هنا - بعد إقامة الحجة بإبراهيم على أن زعمهم حصر الوحي في بني إسرائيل باطل - أن هناك شهادة صريحة بأن الله سيبعث فيهم نبيا من العرب ، فكان هذا دليلا ثالثا وراء الدليل العقلي المشار إليه بقوله : ( 
وهو ربنا وربكم   ) والدليل الإلزامي المشار إليه بقوله : ( 
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل   ) . . . إلخ ، فكأنه يقول : إن هؤلاء إلا 
مجادلون في الحق بعدما تبين ، مباهتون للنبي مع العلم بأنه نبي ، إذ ما كان لهم أن يشتبهوا في أمره بعد شهادة كتابهم له ؛ فإذا كان ظلمهم أنفسهم قد انتهى بهم إلى آخر حدود الظلم - وهو كتمان شهادة الله - تعالى - تعصبا لجنسيتهم الدينية ، التي ارتبط بها الرؤساء بالمرءوسين بروابط المنافع الدنيوية من مال وجاه - فكيف ينتظر منهم أن يصغوا إلى بيان ، أو يخضعوا لبرهان ؟ والاستفهام هنا يتضمن التوبيخ والتقريع المؤكدين بالوعيد في قوله : ( 
وما الله بغافل عما تعملون   ) ، وإنما الجزاء على الأعمال ، ثم ختم المحاجة بتأكيد أمر العمل ، وعدم فائدة النسب فقال : 
( 
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون   ) وإنما تسئلون عن أعمالكم وتجازون عليها ، فلا ينفعكم ولا يضركم سواها ، وهذه قاعدة يثبتها كل دين قويم ، وكل عقل سليم ، ولكن قاعدة الوثنية القاضية باعتماد الناس في طلب سعادة الآخرة ، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين تغلب مع الجهل كل دين وكل عقل ،   
[ ص: 404 ] ومنع الجهل التقليد المانع من النظر في الأدلة العقلية والدينية جميعا ، اللهم إلا مكابرة الحس والعقل ، وتأويل نصوص الشرع ، تطبيقا لهما على ما يقول المقلدون المتبعون ( بفتح اللام والباء ) وقد أول المؤولون نصوص أديانهم تقريرا لاتباع رؤسائهم والاعتماد على جاههم في الآخرة ؛ لذلك جاء 
القرآن يبالغ في تقرير قاعدة ارتباط السعادة بالعمل والكسب وتبيينها ، ونفي الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يتأس بهم في العمل الصالح ؛ ولذلك أعاد هذه الآية بنصها في مقام محاجة 
أهل الكتاب  المفتخرين بسلفهم من الأنبياء العظام ، المعتمدين على شفاعتهم وجاههم وإن قصروا عن غيرهم في الأعمال . وفائدة الإعادة تأكيد تقرير قاعدة بناء السعادة على العمل دون الآباء والشفعاء ، بحيث لا يطمع في تأويل القول طامع ، والإشعار بمعنى يعطيه السياق هنا وهو : أن أعمال هؤلاء المجادلين المشاغبين من 
أهل الكتاب  مخالفة لأعمال سلفهم من الأنبياء ، فهم في الحقيقة على غير دينهم . 
وقد سبق القول بأن الآية أفادت في وضعها الأول : أن 
إبراهيم  وبنيه وحفدته ، قد مضوا إلى ربهم بسلامة قلوبهم وإخلاصهم في أعمالهم ، وانقطعت النسبة بينهم وبين من جاء بعدهم فتنكب طريقهم ، وانحرف عن صراطهم ، وإن أدلى إليهم بالنسب ، فكل واحد من السلف والخلف مجزي بعمله ، لا ينفع أحدا منهم عمل غيره من حيث هو عمل ذلك الغير ولا شخصه بالأولى ، وذلك أنها جاءت عقب بيان ملة 
إبراهيم  وإيصاء بعضهم بعضا بها ، وبيان دروجهم عليها ، ثم جاء بعد ذلك الاحتجاج على القوم بمن يعتقدون فيهم الخير والكمال ، وكونهم لم يكونوا على هذه اليهودية ولا هذه النصرانية اللتين حدثتا بعدهم ، فجاءت قاعدة الأعمال في هذا الموضع تبين أن المتخالفين في الأعمال والمقاصد لا يكونون متحدين في الدين ولا متساوين في الجزاء ، فأفادت هنا ما لم تفده هناك . وللمسلمين أن يحاسبوا أنفسهم ، ويحكموا قاعدة العمل والجزاء بينهم وبين سلفهم ، ولا يغتروا بالتسمية إن كانوا يعقلون . 
وأزيد على ما تقدم أن انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا إنما يكون بمقتضى سنن الله - تعالى - في الأسباب والمسببات ، ومن المعلوم شرعا وعقلا : أن الميت ينقطع عمله بخروجه من عالم الأسباب إلى البرزخ من عالم الغيب ، وأما الآخرة فلا كسب فيها ، وأمرها إلى الله وحده ظاهرا وباطنا ، كما قال - تعالى - : ( 
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله   ) ( 82 : 19 )