1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأعراف
  4. تفسير قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين
صفحة جزء
( بسم الله الرحمن الرحيم المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون )

[ ص: 262 ] ( المص ) هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا : ألف ، لام ، ميم ، صاد ، والمختار عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء . فهي كأداة الافتتاح " ألا " و " هاء " التنبيه . وإنما خصت سور معينة من الطول والمئين المثاني والمفصل بهذا الضرب من الافتتاح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة ، وكلها مكية إلا الزهراوين البقرة وآل عمران - وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب - وكلها مفتتحة بذكر الكتاب إلا سورة مريم وسورتي العنكبوت والروم وسورة ( ن ) . وفي كل منهما معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب .

فأما سورة مريم فقد فصلت فيها قصتها بعد قصة يحيى وزكريا المشابهة لها . ويتلوهما ذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءا كل منها بقوله تعالى : ( واذكر في الكتاب ) والمراد بالكتاب القرآن . فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى ( واذكر في الكتاب ) وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذا لا هو ولا قومه كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) ( 11 : 49 ) وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) ( 12 : 102 ) وختمت هذه السورة " أي سورة مريم " بإبطال الشرك وإثبات التوحيد ونفي اتخاذ الله تعالى للولد ، وتقرير عقيدة البعث والجزاء . فهي بمعنى سائر السور التي كانت تتلى للدعوة ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم النبيين وصدق كتابه الحكيم .

وأما سورة العنكبوت وسورة الروم فكل منهما قد افتتحت بعد ( الم ) بذكر أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة . فالأول الفتنة في الدين ، وهي إيذاء الأقوياء للضعفاء واضطهادهم لأجل إرجاعهم عن دينهم بالقوة الظاهرة . كان مشركو قريش يظنون أنهم يطفئون نور الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه وأكثرهم من الضعفاء الذين [ ص: 263 ] لا ناصر لهم من الأقوياء بحمية نسب ولا ولاء وكان المضطهدون من المؤمنين يجهلون حكمة الله بظهور أعدائه عليهم ، فبين الله في فاتحة هذه السورة أن الفتنة في الدين من سنته تعالى في نظام الاجتماع يمتاز بها الصادقون من الكاذبين ، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، وتكون العاقبة للمتقين الصابرين . فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها . والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولما يكن وصل خبره إلى قومه - وبما سيعقبه مما هو في ضمير الغيب ذلك أن دولة فارس غلبت دولة الروم في القتال الذي كان قد طال أمره بينهما فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم الفرس في مدى بضع سنين . وبأن الله تعالى ينصر في ذلك اليوم المؤمنين على المشركين ، وقد صدق الخبر وتم الوعد فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات القرآن والآيات المثبتة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام . ولو فات من تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة من أولها لما فهموا مما بعدها شيئا فكانت جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع المنبهة للأذهان . وكان هذا بعد انتشار الإسلام بعض الانتشار ، وتصدي رؤساء قريش لمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس ولا سيما في موسم الحج ، وكان السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) ( 41 : 26 ) .

وأما سورة " ن " ففاتحتها وخاتمتها في بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم ودفع شبهة الجنون عنه ، وهي أول ما نزل بعد سورة ( اقرأ باسم ربك ) ( 96 : 1 ) وكانت شبهة رميه - حماه الله وكرمه - بتهمة الجنون مما يتبادر إلى الأذهان من غير عداوة ولا مكابرة ، فإن رجلا أميا فقيرا وادعا سلما ، ليس برئيس قوم ولا قائد جند ، ولا ذي تأثير في الشعب بخطابة ولا شعر ، يدعي أن جميع البشر على ضلال الكفر والفسق ، وأنه مرسل من الله لهداية هؤلاء الخلق ، وأن دينه سيهدي العرب والعجم ، وإصلاح شرعه سيعم جميع الأمم ، لا يستغرب من مدارك أولئك المشركين الأميين الجاهلين بسنن الله في الأمم وآياته في تأييد المرسلين ، أن يكون أول ما يصفون به صاحب هذه الدعوى قبل ظهور الآيات والعلوم بقولهم : " إنه لمجنون " وبعد ظهورها بقولهم : " ساحر أو كاهن أو مجنون " وبعد ظهور العلم والعرفان : بقولهم : " معلم [ ص: 264 ] مجنون " ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) ( 51 : 52 ، 53 ) .

نعم قد قيل : إن ( ن ) هنا بمعنى الدواة ، ولذلك قرن بالقلم لبيان أن هذا الدين يقوم بالعلم والكتابة ، كما قال في أول ما نزل عليه قبلها : ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ) ( 96 : 3 ، 4 ) وقيل : إنه بمعنى الحوت لأن في السورة ذكرا لصاحب الحوت يونس عليه السلام ، ولو صح هذا أو ذاك لما كتبت النون مفردة ونطقت ساكنة ، بل كانت تذكر مركبة ومعربة كقوله : ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا ) ( 21 : 87 ) وإنما يصح أن يكون فيها إشارة إلى ما ذكر ، كما يصح في سائر تلك الحروف أن يكون فيها إشارات إلى معان معينة تظهر لبعض الناس دون بعض ، أو غير معينة تذهب فيها الأفهام مذاهب تفيد أصحابها علما أو عبرة ، بشرط أن تتفق مع هداية القرآن وإن لم يصح أن يقال : إنها مرادة لله تعالى بحسب دلالة الألفاظ العربية على معانيها .

ومن هذا القبيل الأخير جعل بعض مفسري السلف هذه الأحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى أو من جمل من الكلام تشتمل عليها : أخرج أكثر رواة التفسير المأثور والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في ( المص ) قال أنا الله أفضل . ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير وروى هو وابن أبي حاتم عن السدي فيه قال : هو المصور . وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي فيه قال : الألف من الله ، والميم من الرحمن ، والصاد من الصمد . وأبو الشيخ عن الضحاك فيه قال : أنا الله الصادق . وروى أبناء جرير ، والمنذر ، وأبو حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( المص ) و ( طه ) و ( طسم ) و ( حم عسق ) و ( ق ) و ( ن ) وأشباه هذا أنه قسم أقسم الله به وهي من أسماء الله تعالى .

وأقرب من هذا إلى الفهم أنها أسماء للسور - والاسم المرتجل لا يعلل - وهو ما اخترناه في تفسير ( الم ) من سورتي البقرة وآل عمران وعليه الأكثر ، وهو لا ينافي ما بيناه من الحكمة آنفا ، وهي التي فتح علينا بها في درس التفسير الذي كنا نلقيه في مدرسة دار الدعوة والإرشاد وقد فصلناه فيه أتم تفصيل ، إذ أثبتنا أن من حسن البيان وبلاغة التعبير ، التي غايتها إفهام المراد من الإقناع والتأثير ، أن ينبه المتكلم المخاطب إلى مهمات كلامه والمقاصد الأولى بها ، ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها ، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها . وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح ، فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان ويجب أن يكون فيها الإمام المقتدى ، كما أنه هو الإمام في [ ص: 265 ] الإصلاح والهدى ؟ ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صيحة التخويف والزجر ، أو غنة الاسترحام والعطف ، أو رنة النعي وإثارة الحزن أو نغمة التشويق والشجو ، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع ، أو صخب التهويش وقت الجدل . ومنه الاستعانة بالإشارات ، وتصوير المعاني بالحركات ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها . [ ص: 266 ] هذا وإنني بعد أن هديت إلى هذه الحكمة لبدء سور مخصوصة بهذه الأحرف بحثت [ ص: 267 ] عن سلف لي في ذلك فراجعت التفسير الكبير للرازي لسعة اطلاعه وبسطه لكل ما اطلع عليه ولم أكن أقرأ مثل هذا منه ، فألفيته قد ذكر للناس قولين في هذه الأحرف .

( أحدهما ) أنها علم مستور وسر محجوب استأثر الله تعالى به ، وأنه روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : في كل كتاب سر ، وسره في القرآن أوائل السور ، وعن علي كرم الله وجهه : إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . ( ونقول : قد نقل أهل الأثر عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود أن هذه الحروف مما استأثر الله بعلمه ) ثم ذكر أن المتكلمين أنكروا هذا القول واحتجوا عليه بالآيات والأحاديث والمعقول ، وفصل ذلك .

( ثانيهما ) أن معناها معلوم ، ونقل من أقوالهم فيها 21 قولا ، الثاني عشر منها [ ص: 268 ] قول ابن روق وقطرب أن الكفار لما قالوا : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) ( 41 : 26 ) وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى - لما أحب من صلاحهم ونفعهم - أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون سببا لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ، فأنزل الله عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد - عليه السلام - فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن ، فكان ذلك سببا لاستماعهم ، وطريقا إلى انتفاعهم اهـ . ثم سمي هذا حكمة في مواضع أخرى ، وهو كما قلنا ، ثم علمت أن للشيخ محيي الدين بن عربي تفسيرا مختصرا - على طريقة المفسرين لا الصوفية - اقتصر فيه على هذا المعنى .

وفي شرح الإحياء بعد ذكر القول بأن هذه الحروف تنبيهات ما نصه " قال الحربي : القول بأنها تنبيهات جيد ؛ لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة ، فينبغي أن يرد على سمع منتبه ، فكان من الجائز أن يكون قد علم في بعض الأوقات كون النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولا فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله : الم ، وحم ليسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه ( قال ) وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كـ " ألا " و " أما " لأنها من الألفاظ التي تعارفها الناس في كلامهم ، والقرآن كلام لا يشبه الكلام فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قرع سمعه اهـ . وقيل : إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم له سببا لاستماعهم له ، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده فترق القلوب وتلين الأفئدة اهـ .

وأقول : إن جعل التنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم مستبعد ، وقد كان يتنبه وتغلب الروحانية على طبعه الشريف بمجرد نزول الروح الأمين عليه ودنوه منه كمايعلم مما ورد في نزول الوحي من الأحاديث الصحيحة ، ولا يظهر فيه وجه تخصيص بعض السور بالتنبيه ، وإنما كان التنبيه أولا وبالذات للمشركين في مكة ، ثم لأهل الكتاب في المدينة كما تقدم قريبا ؛ إذ كان المؤمنون يتوجهون بكل قواهم إلى ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وكله عندهم سواء ، فهم مقصودون بهذا التنبيه بالدرجة الثانية .

وقد ظهر بما استقصيناه من التتبع أنه لم يبين هذه الحكمة أحد بمثل ما بيناها به [ ص: 269 ] ابتداء ولله الحمد ، ولو رأى مثل هذا البيان ابن كثير لما ضعف هذا الوجه إذ نقله موجزا مجملا عن ابن جرير ، وقد رجح هو ما ذهب إليه كثير من العلماء من أن حكمة ذكر هذه الحروف بيان إعجاز القرآن بالإشارة إلى أنه مركب من هذه الحروف المفردة التي يتألف منها جميع الكلام العربي ، وقد أطنب في تقرير ذلك من مفسري علماء البلاغة الزمخشري وتلاه البيضاوي واختاره من علماء المنقول والمعقول ابن تيمية وتبعه تلميذه الحافظ المزي فيراجع في محله .

التالي السابق


الخدمات العلمية