1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأعراف
  4. تفسير قوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار
صفحة جزء
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين )

بين الله تعالى في الآيتين اللتين قبل هذه الآية وبعد آيات الجزاء والمعاد ، سبب هلاك الكافرين وخسران أنفسهم بالشرك في ألوهيته ، وعبادة من اتخذوهم شفعاء عنده بغير إذنه وعدم اتباع الرسل الذين دعوهم إلى عبادته وحده بما شرعه لهم ، دون ما ابتدعوه أو ابتدعه لهم من قبلهم ، ثم قفى على ذلك بخمس آيات جامعة لجملة ما جاءت به الرسل من الدين بإيجاز بليغ ابتدأها بآية الخلق والتكوين الهادية إلى حقيقة الربوبية والألوهية برهانا على أصل الدين ، فقال عز وجل :

( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) الرب : هو السيد والمالك والمدبر والمربي ، والإله : هو المعبود ، أي الذي يتوجه إليه الإنسان عند الشعور بالحاجة إلى ما يعجز عنه بكسبه ومساعدة الأسباب له ، فيدعوه لكشف الضر أو جلب النفع ، ويتقرب إليه [ ص: 396 ] بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه ، وبالنذر له والذبح باسمه أو لأجله ، سواء كان الرجاء فيه خاصا به أو مشتركا بينه وبين معبود آخر هو فوقه أو دونه . وأما اسم الجلالة الأعظم ( الله ) فهو اسم لرب العالمين خالق الخلق أجمعين ، الذي ينفي الموحدون الحنفاء ربوبية غيره وألوهية سواه ، ويقول بعض المشركين : إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم ، وأعظم الآلهة أو مرجعهم الذي يشفعون عنده ، وكان مشركو العرب وأمثالهم ينفون وجود رب سواه وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه .

والسماوات والأرض يطلقان في مثل هذا المقام على كل موجود مخلوق ، أو ما يعبر عنه بعض الناس بالعالم العلوي والعالم السفلي - وإن كان العلو والسفل فيهما من الأمور الإضافية - وقد أجمعت الأمم على أن خالق جملة العالم واحد هو رب العالمين ، والذين اتخذوا من دون الله أربابا كانوا يقيدون ربوبيتهم بأمور معينة وكل إليهم تدبيرها ، ويسمونهم بأسماء تدل على ذلك كما تقدم بيانه في تفسير قصة إبراهيم عليه السلام من سورة الأنعام ( 473 ، 474 ج 7 ط الهيئة ) ويخصون خالق كل شيء باسم كاسم الجلالة ( الله ) في العربية إلا الثنوية الذين قالوا بربين مستقلين أحدهما : خالق النور وفاعل الخير ، والثاني : خالق الظلمة ومصدر الشر .

فالله تعالى يقول في هذه الآية للناس كافة : إن ربكم واحد ، وهو الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وهو المدبر لأمورهما وحده ، فيجب أن تعبدوه وحده ، فلا يكون لكم إله غيره ، وقد تطلق السماوات على ما دون العرش من العالم العلوي ولا سيما إذا وصفت بالسبع .

وأما هذه الأيام الستة فهي من أيام الله التي يتحدد اليوم منها بعمل من أعماله يكون فيه ، فإن اليوم في اللغة هو الزمن الذي يمتاز بما يحصل فيه من غيره كامتياز أيامنا بما يحدها من النور والظلام ، وأيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام ، وأيام الله التي أمر موسى أن يذكر قومه بها هي أزمنة أنواع نعمه عليهم . وقد قال تعالى : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) ( 22 : 47 ) ووصف يوم القيامة بقوله : ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) ( 70 : 4 ) ولا يعقل أن تكون هذه الأيام الستة من أيام أرضنا ، التي يحد ليل اليوم ونهاره منها بأربع وعشرين ساعة من الساعات المعروفة عندنا ، فإن هذه الأيام إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض فكيف يكون أصل خلقها في أيام منها . وقد وصف تعالى خلقها وخلق السماء في سورة ( حم السجدة - فصلت ) بما يدل على هذه الأيام فقال : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) ( 41 : 9 - 12 ) [ ص: 397 ] ووصف أصل تكوينهما وحال مادتهما في سورة الأنبياء بقوله : ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) ( 21 : 30 ) فيؤخذ من هذه الآيات مسائل :

( 1 ) أن المادة التي خلقت منها السماوات والأرض كانت دخانا أي مثل الدخان كما قال الراغب في مفردات القرآن ، وفسر الجلال الدخان بالبخار المرتفع ، وذهب البيضاوي إلى أنه جوهر ظلماني قال : ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء التي ركبت منها .

( 2 ) أن هذه المادة الدخانية واحدة ثم فتق الله رتقها أي فصل بعضها من بعض فخلق منها هذه الأرض والسماوات السبع العلا .

( 3 ) أن خلق الأرض كان في يومين ، وتكون اليابسة والجبال الرواسي فيهما ومصادر القوت وهي أنواع النبات والحيوان في يومين آخرين تتمة أربعة أيام .

( 4 ) أن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء .

فيعلم من هذا أن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شيء مباشرة أو غير مباشرة وأن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية ، وإن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها ، وأن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهي النبات والحيوان . فهذه أزمنة لأطوار من الخلق قد تكون متداخلة . وأما السماء العامة وهي العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض فقد سوى أجرامها من مادتها الدخانية في يومين أي زمنين كالزمنين اللذين خلق فيهما جرم الأرض ، وسيأتي الكلام في هذه السماوات في موضعه .

هذا التفصيل الذي يؤخذ من مجموع الآيات يتفق مع المختار عند علماء الكون في هذا العصر من أن المادة التي خلقت منها هذه الأجرام السماوية وهذه الأرض كانت كالدخان ، ويسمونها السديم ، وكانت مادة واحدة رتقا ثم انفصل بعضها من بعض ، ويصورون ذلك تصويرا مستنبطا مما عرفوا من سنن الخلق ، إذا صح كان بيانا لما أجمل في الآيات ، وإذا لم يصح كله أو بعضه لم يكن ناقضا لشيء منها ، فهم يقولون : إن تلك المادة السديمية كانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة ، وأنها قد تجمع بعضها وانجذب إلى بعض بمقتضى سنة الجاذبية العامة ، فكان منها كرة عظيمة تدور على محور نفسها ، وأن شدة الحركة [ ص: 398 ] أحدثت فيها اشتعالا فكانت ضياء - أي نورا ذا حرارة ، وهذه الكرة الأولى من عالمنا هي التي نسميها الشمس .

ويقولون أيضا : إن الكواكب الدراري التابعة لهذه الشمس فيما نشاهد من نظام عالمنا هذا قد انفتقت من رتقها ، وانفصلت من جرمها ، وصارت تدور على محاورها مثلها . ومنها أرضنا هذه ، فقد كانت مشتعلة مثلها . ثم انتقلت من طور الغازات المشتعلة إلى طور المائية في زمن طويل بنظام مقدر بكثرة ما فيها من العنصرين اللذين يتكون منهما بخار الماء فكانا يرتفعان منها في الجو فيبردان فيكونان بخارا فماء ينجذب إليها ثم يتبخر منها حتى غلب عليها طور المائية . ثم تكونت اليابسة في هذا الماء بتجميع موادها طبقة بعد طبقة ، وتولدت فيها المعادن والأحياء الحيوانية والنباتية بسبب حركة أجزاء المادة وتجمع بعضها على بعض بنسب ومقادير مخصوصة وقد ظهر بالبحث والحفر أن بعض طبقات الأرض خالية من آثار الحيوان والنبات جميعا فعلم أن تكونها كان قبل وجودهما فيها .

فهذه الأقوال وما فصلوها به مما رأوه أقرب النظريات إلى سنن الكون وصفة عناصره البسيطة وحركتها ، وتكون المعادن منها ، والمادة الزلالية ذات القوى التي بها كانت أصل العوالم الحية كالتغذي والانقسام والتولد ، وهي التي يسمونها ( برتوبلاسما ) وصفة تكون الخلايا التي تركبت منها الأجسام العضوية - كل ذلك تفصيل لخلق العوالم أطوارا بسنن ثابتة وتقدير منظم لم يكن منه شيء جزافا ، وقد أرشد الكتاب الحكيم إلى هذه الحقائق العامة الثابتة في نفسها ، وإن لم يثبت كل ما قالوه من فروعها ومسائلها - بمثل قوله : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) ( 54 : 49 ) وقوله : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) ( 25 : 2 ) وقوله حكاية عن رسوله نوح عليه السلام مخاطبا لقومه : ( ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ) ( 71 : 13 - 17 ) فمن دلائل إعجاز القرآن أنه يبين الحقائق التي لم يكن يعرفها أحد من المخاطبين بها في زمن تنزيله بعبارة لا يتحيرون في فهمها والاستفادة منها مجملة ، وإن كان فهم ما وراءها من التفصيل الذي يعلمه ولا يعلمونه يتوقف على ترقي البشر في العلوم والفنون الخاصة بذلك .

وقد سبق علماء الإسلام إلى كثير مما يظن الآن أن علماء الإفرنج قد انفردوا به من مسائل نظام الخلق . ومن ذلك قول الفخر الرازي : الأشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الزمان مغمورة في البحار فحصل فيها طين لزج فتحجر بعد الانكشاف ، وحصل الشهوق بحفر السيول والرياح ولذلك كثرت فيها الجبال ، ومما يؤكد هذا الظن أنا نجد [ ص: 399 ] في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء المائية كالأصداف والحيتان اهـ .

يظن بعض قصيري النظر وضعيفي الفكر أن الخلق الأنف - ( بضمتين ) : الجزاف - الذي لا تقدير فيه ولا تدريج نظام - أدل على وجود الخالق وعلى عظمة قدرته ، ويقوي هذا الظن عند بعض الناس ما علم من كفر بعض الباحثين في نظام الخلق والتكوين وسننه بالخالق عز وجل وإن كان كفرهم ذهولا واشتغالا عن الصانع بدقة الصنعة ، وتجويزا لحصول النظام فيها بنفسه مصادفة واتفاقا ، والصواب المعقول : أن النظام أدل الدلائل على الإرادة والاختيار ، والعلم والحكمة في آثار القدرة ، وعلى وحدانية الخالق . فإن وحدة النظام في العالم أظهر البراهين على وحدة الرب تعالى . وما لا نظام فيه هو الذي قد يخطر في بال رائيه أن وجوده أمر اتفاقي أو من قذفات الضرورة العمياء أو بفعل أكثر من واحد . وأي عاقل لا يفرق بين كومة من الحصى يراها في الصحراء وبين قصر مشيد ، فيه جميع ما يحتاج إليه مترفو الأغنياء من حجرات ومرافق ، أفيعقل أن يكون النظام العام في العالم الأكبر ووحدة السنن التي قام بها بالمصادفة ؟ أو أثر إرادات متعددة ؟ ! كلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية