1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة الأعراف
  4. تفسير قوله تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء
صفحة جزء
( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون )

بعد أن بين الله تعالى جده أن رحمته العامة قريب من المحسنين في عبادتهم وفي سائر أعمالهم ، ذكرنا بما نغفل عنه كثيرا من التفكر والتأمل في أظهر أنواع هذه الرحمة ، وهو إرسال الرياح وما فيها من منافع الخلق ، وإنزال المطر الذي هو مصدر الرزق ، وسبب حياة كل حي في هذه الأرض ، وما فيه من الدلالة على قدرته تعالى على البعث ، وما يستحقه عليه من الحمد والشكر ، فقال :

( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) الجملة معطوفة على ما بين به تعالى تدبيره لأمر العالم في إثر إثباته لخلق السماوات والأرض ، واستوائه على العرش ، في قوله : [ ص: 414 ] ( يغشي الليل النهار ) إلخ . وما بينهما من قبيل الاعتراض المقصود بالذات ، من التذكير بهذه الآيات ، وهو إخلاص العبادة له وحده بالفعل والترك ، المعبر عنه بالنهي عن الإفساد في الأرض وهو شامل لجميع ما حرمه الإسلام .

الريح : الهواء المتحرك . وهي مؤنثة في الأكثر وقد تذكر بمعنى الهواء ، وأصلها روح بالواو وقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها - كالميزان وأصلها موزان لأنها من الوزن - وجمعها رياح وأرواح وكذا أرياح وهو شاذ والهواء من أعظم نعم الله تعالى على الأحياء ، إذ وجوده شرط لحياة كل نبات وحيوان ، فلو رفعه الله تعالى من الأرض لمات كل حيوان وإنسان في طرفة عين ، ولا تتم منافعه إلا بحركته التي يكون بها ريحا ، وسنذيل تفسير الآيتين بنبذة علمية في بيان حقيقته وأهم منافعه العامة . ومن أهمها فعله في توليد المطر الذي هو موضوع الآية .

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( الريح ) مفردة والباقون ( الرياح ) بالجمع ، ورسمت من المصحف الإمام بغير ألف لتحتمل القراءتين ولذلك أمثال ، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابها من الجهات الأربع : الشمال والجنوب وسميتا باسم جهة مهبهما ، والثالثة الصبا والقبول وهي الشرقية ، والرابعة الدبور وهي الغربية . وأهل الحجاز ينسبون ريح الصبا إلى نجد ، والجنوب إلى اليمن ، والشمال إلى الشمال ، والريح التي تنحرف عن هذه المهاب الأصلية فتكون بين ثنتين منها تسمى النكباء مؤنث الأنكب ، وهي من قولهم نكب عن الشيء أو عن الطريق نكبا ونكوبا إذا انحرف وتحول عنه ، ومنه ( وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ) ( 23 : 74 ) وإذا هبت الرياح من مهاب ونواح مختلفة سموها المتناوحة . ومن المأثور عن العرب أن الرياح تشترك في إثارة السحاب الممطر فيقولون : إن الصبا تثيره والشمال تجمعه ، والجنوب تدره والدبور تفرقه . قال ابن دريد في وصف سحاب ممطر دعا لبلاده به :


جون أعارته الجنوب جانبا منها وواصت صوبه يد الصبا



ثم قال :


إذا خبت بروقه عنت له     ريح الصبا تثير منه ما خبا


وإن ونت رعوده حدا بها     حادى الجنوب فحدت كما حدا



ويختلف تأثير الرياح في الأقطار باختلاف مواقعها منها . فالصبا والجنوب لا يأتيان بالمطر في القطر المصري لأن مهبهما الصحاري التي لا ماء فيها ولا نبات ، وإنما تأتي به الشمال والدبور لأن مهبهما من جهة البحر المتوسط فيحملان بخار الماء منه ومن الأراضي الزراعية ، وأكثرها في الوجه البحري ، ويقرب منه في ذلك ديار الشام فإن أكثر ما يثير سحاب المطر فيها الدبور ( الغربية ) فإذا هبت الصبا ( الشرقية ) وغلبت انقشع السحاب وخفت رطوبة [ ص: 415 ] الجو ، ولعل حكمة القراءتين أن الريح الواحدة تبشر بالمطر أحيانا أو في بعض الأقطار كما تبشر به ريحان في قطر آخر ، أو أن الرياح بأنواعها تبشر بالمطر في الأقطار المختلفة ، على أن الريح يراد بها عند إطلاقها الجنس .

وقال الراغب كغيره : إن عامة المواضع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب ، وكل موضع ذكر بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة ، وذكر بعض الشواهد ، ومن استقرأ الآيات في ذلك رأى أن الجمع لم يذكر إلا في بيان آيات الله أو رحمته ولا سيما رحمة المطر ، وأما الريح المفردة فذكرت في عذاب قوم عاد في عدة سور ، وفي ضرب المثل للعذاب كقوله تعالى : ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ) ( 3 : 117 ) وقوله : ( أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) ( 14 : 18 ) وقوله : ( أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) ( 22 : 31 ) ونحوه في التهديد في قوله : ( فيرسل عليكم قاصفا من الريح ) ( 17 : 69 ) الآية . ولكنها وردت في الأمرين بالتقابل في قوله تعالى : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ) ( 10 : 22 ) الآية ، وردت في مقام الرحمة والمنة بتسخيرها لسليمان في سورة الأنبياء وسبإ وص .

( وقوله ) تعالى : ( بشرا ) قرأه عاصم بضم الموحدة وسكون الشين ، مخفف بشر بضمتين وهو جمع بشير كنذر جمع نذير ، وفي رواية عنه بضمتين على الأصل ، وقرأ ابن عامر بشرا بالتخفيف حيث وقع من القرآن وحمزة والكسائي نشرا بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق ، فإن الإرسال والنشر متقاربان .

( حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ) قال في الأساس : وأقله واستقل به رفعه . وفي المصباح وكل شيء حملته فقد أقللته ، وأقللته عن الأرض رفعته أيضا ، قيل : إنه مأخوذ من القلة بالكسر لقولهم أقله واستقله أي وجده قليلا ، والأظهر أنه من : أقل القلة - وهي بالضم الجرة - فإنما سميت قلة لأن الرجل يقلها أي يحملها أو يرفعها بيديه عن الأرض ، والسحاب الغيم وهو اسم جنس يفرق بينه وبين واحد بالتاء فيقال سحابة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع ، والثقال منه المتشبعة ببخار الماء ، والمعنى : أن الرب المدبر لأمور الخلق هو الذي يرسل الرياح بين يدي رحمته ، لعباده بالمطر ، أي قدامها مبشرات بها وناشرات لأسبابها حتى إذا حملت سحابا ثقالا ورفعته في الهواء ( سقناه لبلد ميت ) أي سيرناه وسقناه بها إلى بلد ميت أي أرض لا نبات فيها ، فإنما حياة الأرض بالنبات الحي فيها " فاللام بمعنى إلى " كما في آية فاطر ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور 35 : 9 ) [ ص: 416 ] قال في المصباح كغيره : ويطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء ، وفي التنزيل ( إلى بلد ميت 35 : 9 ) أي إلى أرض ليس فيها نبات ولا مرعى فنخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم ، فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى ، وأطلق الحياة على وجودهما اهـ . أقول : وغلب عرف الناس بعد ذلك في تخصيص البلد بالمكان الآهل بالسكان في المباني .

( فأنزلنا به الماء ) أي فأنزلنا بالسحاب الماء ، فالباء للآلة أو السببية - أو بالبلد فتكون الباء للظرفية ، أي فيه ، أو بالرياح والمختار هنا كون الباء للسببية ، فإن الريح هي التي تثير السحاب من سطح البحر وغيره من المياه أو الأرض الرطبة وترفعه في الجو ، وهي سبب تحول البخار إلى ماء بتبريدها له - فبذلك يصير البخار ماء أثقل من الهواء فيسقط من خلاله إلى الأرض بحسب سنة الله في جاذبية الثقل ، كما قال تعالى في سورة الروم : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ) ( 30 : 48 ) وفي سورة النور : ( ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ) ( 24 : 43 ) الودق : المطر ، أي يخرج من خلال السحاب وأثنائه وكل ما ورد في القرآن من إنزال الماء من السماء فمراد بالسماء فيه السحاب لأن هذا التفصيل صريح في ذلك ، والسماء اسم لكل ما علا الإنسان ويفسر بالقرائن ، ومن الخطإ أن يظن أن الماء ينزل من السماء المعنوية التي هي مسكن الملائكة على السحاب الذي هو كالغربال لها وإن قال به بعض المؤلفين ؛ فإن القرآن يصرح بخلافه ، وما صرح به القرآن ، وهو الذي أثبته العلم والاختبار ؛ فإن سكان الجبال الشامخة يبلغون في توقها السحاب الممطر ثم يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم ، والعرب تسمي السحاب سماء تسمية حقيقية ثم أطلقت لفظ السماء على المطر نفسه ، فكانت تقول : جاء مكان كذا في إثر سماء ، وقال الشاعر :


إذا نزل السماء بأرض قوم     رعيناه وإن كانوا غضابا



وأما قوله تعالى في تتمة آية سورة النور التي ذكرنا أولها آنفا : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) ( 24 : 43 ) فلا مانع من جعل السماء فيها عين السحاب ولعل الأظهر أن يراد بها جهة العلو التي يكون فيها السحاب كقوله : ( فيبسطه في السماء كيف يشاء ) ( 30 : 48 ) وقوله : ( من جبال ) بدل مما قبله . والمراد بالجبال : قطع السحاب التي تشبه الجبال شبها تاما في عظمها وارتفاعها وشناخيبها وقللها ، وقلما يوجد في الخلق تشابه كالتشابه بين السحاب [ ص: 417 ] والجبال . والمعنى : وينزل من السماء من سحب فيها كالجبال بردا عظيم الشأن في شكله وقوته وتأثيره فيمن يصيبه ، و ( من ) فيه صلة أو للتبعيض أو للتنويع . وما روي مخالفا لهذا فمن إسرائيليات كعب الأحبار وأمثاله كما نبينه في محله إن شاء الله تعالى .

( فأخرجنا به من كل الثمرات ) عطف كلا من إنزال الماء على سوق السحاب ومن إخراج النبات على إنزال الماء بالفاء الدالة على التعقيب ، وهو يتفاوت بتفاوت الأشياء ، فإنزال الماء يعقب سوق السحاب الثقال وجعله كسفا أو ركاما بدقائق معدودة قلما يتجاوزها إلى الساعات ، وسبب السرعة فيه شدة الريح ، ويقابله سبب البطء وهو ضعفها . وأما إخراج النبات بسبب هذا الماء فأمد التعقيب فيه أوسع ، فإنه يكون بعد أيام تختلف قلة وكثرة باختلاف الأقطار في الحرارة والبرودة . ومن التعقيب ما يكون في أشهر أو سنين ، فمن الأول قولهم : تزوج فولد له - فهو يصدق بمن يولد له بعد مضي مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر بالتقريب ، ولعله لا ينافي التعقيب فيه زيادة شهر أو شهرين أو ثلاثة .

والثمرات جمع ثمرة وهي واحدة الثمر ( بتحريك كل منهما ) والثمر يجمع على ثمار - كجبل وجبال - وجمع الثمار ثمر - ككتاب وكتب - وهو يجمع على أثمار - كعنق وأعناق - قال في المصباح : والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا . فيقال : ثمر الأراك وثمر العوسج ، وثمر الدوم وهو المقل ، كما يقال : ثمر النخل ، وثمر العنب اهـ . وهذا أصح وأوضح من قول الراغب : الثمر اسم لكل ما يتطعم من أعمال الشجرة . والمراد بكل الثمرات : جميع أنواعها على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها . وليس المراد أن كل بلد ميت ينزل الله فيه الماء يخرج به جميع الثمرات التي خلقها في الأرض ، فقد علم من الآية التالية ومن سنن الله تعالى في الأرض ومن المشاهدة أن البلاد تختلف أرضها فيما تخرجه وفي الإخراج ، فالاستغراق لا يصح إلا بالنسبة إلى أرض الله كلها . ويكفي في كل أرض أن تخرج أنواعا مختلفة تدل على قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته وفضله وإحسانه . قال تعالى : ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ( 13 : 4 ) وقفى على التذكير بهذه الآيات بالتعجب من إنكارهم للبعث كما قال هنا :

التالي السابق


الخدمات العلمية