صفحة جزء
[ ص: 27 ] أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم يقال : هداه السبيل أو الشيء ، وهداه له وهداه إليه ، إذا دله عليه وبينه له ، وأهل الغور من العرب كانوا يقولون : هدى له الشيء بمعنى بينه له ، نقله في ( لسان العرب ) وذكر أنه قد فسر به ما في الآية وأمثالها ، وهذا التعبير ورد في سياق النفي والاستفهام ، ومثله في سورة طه : أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( 20 : 128 ) وفي سورة ( الم - السجدة ) أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ( 32 : 26 ) والسياق الذي وردت فيه آية الأعراف التي نفسرها مثل السياق الذي وردت فيه آيتا طه والسجدة ، والاستفهام هنا داخل على فعل محذوف عطف عليه ما بعده كما سبق في نظائره ، وللتقدير وجوه كلها تفيد العبرة ، فهو مما تذهب النفس فيه مذاهب من أقربها أن يقال : أكان مجهولا ما ذكر آنفا عن أهل القرى وسنة الله تعالى فيهم ، ولم يبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن ، وجيلا في أثر جيل ، أولم يتبين لهم به ، أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم ، وهو أنهم خاضعون لمشيئتنا فلو نشاء أن نصيبهم ونعذبهم بسبب ذنوبهم أصبناهم كما أصبنا أمثالهم من قبلهم بمثلها ، وقوله تعالى : ونطبع على قلوبهم معطوف على ( أصبناهم ) لأنه بمعنى : نصيبهم ؛ إذ الكلام في الذين يرثون الأرض في العصر الحالي أو المستقبل على الإطلاق ، وليس في قوم معينين طبع الله على قلوبهم بالفعل ، كما ظن الزمخشري وغيره فمنعوا هذا العطف ، وقالوا : المعنى ، ونحن نطبع على قلوبهم ، والمراد أنه ينبغي لمن يستخلفهم الله في الأرض ، ويرثون ما كان لمن قبلهم من الملك والملك أن يتقوا الله ، ولا يكونوا من المفسدين الظالمين ، ولا من المترفين الفاسقين ، وأن يعلموا أن من المحتم عقاب الأمم على السيئات ، وقد خلت من قبلهم المثلات ، فلم يكن ما حل بمن قبلهم من المصادفات ، بل هو من السنن المطردة بالمشيئة والاختيار ، فلا هوادة فيه ولا ظلم ولا محاباة ، والناس في ذلك فريقان : فريق يصاب بذنبه فيتعظ ويتوب إلى ربه ، وفريق يصر عليه حتى يطبع على قلبه ، وهو مستعار من طبع السكة ونقشها بصورة أو كتابة لا تقبل غيرها ، أو من الطبع الذي بمعنى الختم كقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم ( 2 : 7 ) والطابع والخاتم بفتح الباء والتاء واحد ، وقيل : إنه مأخوذ من الطبع بالتحريك ، وهو الصدأ الشديد يعرض للسيف ونحوه فيفسده يقال : طبع الطباع السيف والدرهم ؛ أي : ضربه ، وطبع الكتاب وعلى الكتاب وختمه إذا ضرب عليه الطابع والخاتم بعد إتمامه ووضعه في ظرفه حتى لا يدخل فيه شيء آخر ، ومنه الطبع والطبيعة وهي الصفة الثابتة للشيء أو الشخص ، فالسجية نقش النفس بصورة ثابتة لا تتغير ؛ لأن ما يتغير [ ص: 28 ] لا يسمى طبيعة ، ومنه طبع الكتب في الآلة المعروفة بالمطبعة سمي بذلك ؛ لأنه لا يقبل المحو والتغيير كالخط ، على أن الناس قد صنعوا أحبارا لا تمحى أيضا .

ولا يستعمل الطبع على القلوب إلا في الشر ، والمراد به أنها وصلت من الفساد إلى حالة لا تقبل معها خيرا كالهدى والإيمان والعلم النافع الذي هو فقه الأمور ولبابها ، وإنما يحصل بالإصرار على الشرور والمعاصي استحلالا واستحسانا لها حتى لا يعود في النفس موضع لغيرها ، قال تعالى في اليهود : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 4 : 155 ) أي : إلا قليلا منهم ؛ وهم الذين لم يطبع على قلوبهم ، وقال تعالى في المنافقين : وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ( 9 : 87 ) ومثله في سورتهم ، وقال هنا : فهم لا يسمعون أي : فهم بهذا الطبع لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ( 10 : 101 ) ما يراد منها ؛ لأن قلوبهم قد ملئت بما يشغلهم عنها من آراء وأفكار وشهوات ملكت عليها أمرها ، حتى صرفتهم عن غيرها فجعلتهم من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( 18 : 104 ) .

قد كان ينبغي للمسلمين وهذا كتابهم من عند الله عز وجل أن يتقوه تعالى بانتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من قبلهم وزال ملكهم ، ودالت بسببها الدولة لأعدائهم ؛ إذ بين لهم أن ذنوب الأمم لا تغفر كذنوب بعض الأفراد ؛ وسنته فيها لا تتبدل ولا تتحول ، ولكنهم قصروا أولا في تفسير أمثال هذه الآيات المبينة لهذه الحقائق ، ثم في وعظ الأمة بها ، وإنذارهم عاقبة الإعراض عنها ، وترك الاتعاظ بتدبرها ، ومن يقرأ شيئا من تفسيرها فإنما يعنى بإعرابها ، والبحث في ألفاظها ، أو جدل المذاهب فيها ، ثم إنهم يجعلون معانيها خاصة بالكافرين ، ويفسرون الكافرين بمن لا يسمون أنفسهم مسلمين ، وطالما أنكر علينا بعض أدعياء العلم والدين ، أننا جعلنا الآيات التي نزلت في الكفار شاملة لأهل الإسلام والإيمان مأفوكين عن تدبرها المراد منها جاهلين للسنن العامة فيها ، وكذلك كان يقول أهل الكتاب من قبلهم ، فظنوا كما ظنوا أن الله تعالى يحابي الأقوام لأجل رسلهم ، وأنه يعطيهم سعادة الدنيا والآخرة بجاههم لا باتباعهم ، وقد راجت هذه العقائد الفاسدة في المسلمين ، وكانت تجارة للشيوخ المقلدين الجامدين والدجالين الضالين المضلين : فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ( 2 : 16 ) بل كانوا فتنة للكافرين وحجة على الدين ، كما بيناه من قبل ، وفي هذا السياق آنفا : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( 47 : 24 ) ؟ [ ص: 29 ] أفلا يعتبرون بقول رسولهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " شيبتني هود وأخواتها " أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ( 23 : 68 ، 69 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية