صفحة جزء
" ومنها ما يلطف فلا يعرفه إلا من تعاطاه وتأمله كخيط السحارة الذي يخرج مرة أحمر ومرة أصفر ومرة أسود ، ومن لطيف ذلك ودقيقه ما يفعله المشعوذون من جهة الحركات وإظهار التخيلات التي تخرج على غير حقائقها حتى يريان عصفورا معه أنه قد ذبحه ثم يريكه ، وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه وذلك لخفة حركته ، والمذبوح غير الذي طار ؛ لأنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدهما وأظهر الآخر ، ويخبأ لخفة الحركة المذبوح ، ويظهر الذي نظيره ، ويظهر أنه قد ذبح إنسانا ، وأنه قد بلع سيفا معه ، وأدخله في جوفه ، وليس لشيء منه حقيقة .

" ومن نحو ذلك ما يفعله أصحاب الحركات للصور المعمولة من صفر أو غيره [ ص: 47 ] فيرى فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر ، وينصرف بحيل قد أعدت لذلك ، وكفارس من صفر على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد ولا يتقدم إليه .

" وقد ذكر الكلبي أن رجلا من الجند خرج ببعض نواحي الشام متصيدا ، ومعه كلب له وغلام فرأى ثعلبا فأغرى به الكلب ، فدخل الثعلب ثقبا في تل هناك ، ودخل الكلب خلفه فلم يخرج فأمر الغلام أن يدخل فدخل ، وانتظره صاحبه فلم يخرج فوقف متهيئا للدخول ، فمر به رجل فأخبره بشأن الثعلب والكلب والغلام ، وأن واحدا منهم لم يخرج ، وأنه متأهب للدخول ، فأخذ الرجل بيده فأدخله إلى هناك فمضيا إلى سرب طويل حتى أفضى بهما إلى بيت قد فتح له ضوء من موضع ينزل إليه بمرقاتين فوقف به على المرقاة الأولى حتى أضاء البيت حينا ثم قال له : انظر ، فنظر فإذا الكلب والغلام والثعلب قتلى ، وإذا في صدر البيت رجل واقف مقنع في الحديد ، وفي يده سيف فقال له الرجل : أترى هذا ؟ لو دخل إليه هذا المدخل ألف رجل لقتلهم كلهم ، فقال : وكيف ؟ قال : لأنه قد رتب وهندم على هيئة ، متى وضع الإنسان رجله على المرقاة الثانية للنزول تقدم الرجل المعمول في الصدر فضربه بالسيف الذي في يده ، فإياك أن تنزل إليه ، فإن وصلت إليه من تلك الناحية لم يتحرك ، فاستأجر الجندي أجراء وصناعا حتى حفروا سردابا من خلف التل فأفضوا إليه فلم يتحرك ، وإذا رجل معمول من صفر أو غيره قد ألبس السلاح وأعطي السيف ، فقلعه ، ورأى بابا آخر في ذلك البيت ففتحه فإذا هو قبر لبعض الملوك ميت على سرير هناك ، وأمثال ذلك كثيرة جدا .

" ومنها الصور التي يصورها مصورو الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بين الإنسان وبينها ، ومن لم يتقدم له علم أنها صورة لا يشك في أنها إنسان ، وحتى تصورها ضاحكة أو باكية ، وحتى يفرق فيها بين الضحك من الخجل والسرور ، وضحك الشامت .

" فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل وخفيها ، وما ذكرناه قبل من جليها ، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب على النحو الذي بينا من حيلهم في العصي والحبال ، والذي ذكرناه من مذاهب أهل بابل في القديم وسحرهم ، ووجوه حيلهم بعضه سمعناه من أهل المعرفة بذلك ، وبعضه وجدناه في كتب قد نقلت حديثا من النبطية إلى العربية ، منها كتاب في ذكر سحرهم وأصنافه ووجوهه ، وكلها مبنية على الأصل الذي ذكرناه من قربانات الكواكب وتعظيمها ، وخرافات معها لا تساوي ذكرها ، ولا فائدة فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية