صفحة جزء
[ ص: 48 ] ( وضرب آخر ) من السحر ، وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين وطاعتهم لهم بالرقى والعزائم ، ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور ، ومواطأة قوم قد أعدوهم لذلك ، وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في الجاهلية ، وكانت أكثر مخاريق الحلاج من باب المواطآت ، ولولا أن هذا الكتاب لا يحتمل استقصاء ذلك لذكرت منها ما يوقف على كثير من مخاريق أمثاله وضرر أصحاب العزائم ، وفتنتهم على الناس غير يسير ؛ وذلك أنهم يدخلون على الناس من باب أن الجن إنما تطيعهم بالرقى التي هي أسماء الله تعالى فإنهم يجيبون بذلك من شاءوا ، ويخرجون الجن لمن شاءوا ، فتصدقهم العامة على اغترار بما يظهرون من انقياد الجن لهم بأسماء الله تعالى التي كانت تطيع بها سليمان بن داود عليهما السلام ، وأنهم يخبرونهم بالخبايا ، وبالسرق .

" وقد كان المعتضد بالله مع جلالته وشهامته ووفور عقله اغتر بقول هؤلاء ، وقد ذكره أصحاب التواريخ ، وذلك أنه كان يظهر في داره التي كان يخلو فيها بنسائه وأهله شخص في يده سيف في أوقات مختلفة ، وأكثره وقت الظهر ، فإذا طلب لم يوجد ، ولم يقدر عليه ، ولم يوقف له على أثر مع كثرة التفتيش ، وقد رآه هو بعينه مرارا ، فأهمته نفسه ، ودعا بالمعزمين فحضرا وأحضروا معهم رجالا ونساء وزعموا أن فيهم مجانين وأصحاء ، فأمر بعض رؤسائهم بالعزيمة فعزم على رجل منهم زعم أنه كان صحيحا فجن وتخبط وهو ينظر إليه ، وذكروا له أن هذا غاية الحذق بهذه الصناعة إذ أطاعته الجن في تخبيط الصحيح ، وإنما كان ذلك المعزم بمواطأة منه لذلك الصحيح على أنه متى عزم عليه جنن نفسه وخبط ، فجاز ذلك على المعتضد فقامت نفسه منه وكرهه ، إلا أنه سألهم عن أمر الشخص الذي يظهر [ ص: 49 ] في داره فمخرقوا عليه بأشياء علقوا قلبه بها من غير تحصيل لشيء من أمر ما سألهم عنه ؛ فأمره بالانصراف ، وأمر لكل واحد ممن حضر بخمسة دراهم ، ثم تحرز المعتضد بغاية ما أمكنه ، وأمر بالاستيثاق من سور الدار حيث لا يمكن فيه حيلة من تسلق ونحوه ، وبطحت في أعلى السور خراب لئلا يحتال بإلقاء المعاليق التي يحتال بها اللصوص .

" ثم لم يوقف لذلك الشخص على خبر إلا ظهوره له الوقت بعد الوقت إلى أن توفي المعتضد ، وهذه الخوابي المبطوحة على السور ، وقد رأيتها على سور الثريا التي بناها المعتضد فسألت صديقا لي كان قد حجب للمقتدر بالله عن أمر ذلك الشخص ، وهل تبين أمره ؟ فذكر لي أنه لم يوقف على حقيقة هذا الأمر إلا في أيام المقتدر ، وأن ذلك الشخص كان خادما أبيض يسمى ( يقق ) وكان يميل إلى بعض الجواري اللاتي في داخل دور الحريم ، وكان قد اتخذ لحى على ألوان مختلفة ، وكان إذا لبس بعض تلك اللحى لا يشك من رآه أنها لحيته ، وكان يلبس في الوقت الذي يريده لحية منها ، ويظهر في ذلك الموضع وف يده سيف أو غيره من السلاح حيث يقع نظر المعتضد ، فإذا طلب دخل بين الشجر الذي في البستان أو في بعض تلك الممرات أو العطفات ، فإذا غاب عن أبصار طالبيه نزع اللحية جعلها في كمه أو حزته ، ويبقى السلاح معه كأنه بعض الخدم الطالبين للشخص ، ولا يرتابون به ، ويسألونه : هل رأيت في هذه الناحية أحدا ، فإنا قد رأيناه صار إليها ؟ فيقول : ما رأيت أحدا ، وكان إذا وقع مثل هذا الفزع في الدار خرجت الجواري من داخل الدور إلى هذا الموضع فيرى هو تلك الجارية ويخاطبها بما يريد ، وإنما كان غرضه مشاهدة الجارية وكلامها ، لم يزل هذا دأبه إلى أيام المقتدر ، ثم خرج إلى البلدان ، وصار إلى طرطوس ، وأقام بها إلى أن مات وتحدثت الجارية بعد ذلك بحديثه ، ووقف على احتياله ، فهذا خادم قد احتال بمثل هذه الحيلة الخفية التي لم يهتد لها أحد من شدة عناية المعتضد بها ، وأعياه معرفتها والوقوف عليها ، ولم تكن صناعته الحيل والمخاريق فما ظنك بمن قد جعل هذا صناعة ومعاشا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية