صفحة جزء
( 8 ) ومنها ما ورد في تجليه - سبحانه - في الصور ، وأقواها وأصحها حديثا أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - الطويلين في الصحيحين وغيرهما ، ومحل الشاهد فيه أن ناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : " هل يضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ " قالوا : لا يا رسول الله قال " فإنكم ترونه كذلك : يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله - تعالى - في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه . فيأتيهم الله - تعالى - في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه " انتهى المراد منه ، ويليه ذكر الصراط والجواز عليه والنار والحساب إلخ . وهذا لفظ مسلم عن أبي [ ص: 126 ] هريرة ، وفي لفظ البخاري " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ " وذكر بعدها القمر .

وفي حديث أبي سعيد تشبيه رؤية الرب - تعالى - برؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر أيضا ؛ أي : في كونه لا مضارة فيه ، ولا في التزاحم عليه - لا تشبيه المرئي بالمرئي - وفيه ذكر من عبد العزير والمسيح ودخول كل من عبد غير الله النار ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - بعده : " حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله - تعالى - من بر وفاجر أتاهم رب العالمين - سبحانه وتعالى - في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال : فما تنتظرون ؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم : فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا - مرتين أو ثلاثا - حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب . فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، ثم يرفعون رؤوسهم ، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا " الحديث ، وفيه ألفاظ أخرى في الصورة ، ستأتي في آخر الكلام عليه .

وهذا لفظ مسلم أيضا ، ويخالفه لفظ البخاري في بعض التعبير ، ورواهما غيرهما بألفاظ توافق كلا منهما وتخالفه بتعبير أو زيادة أو نقصان والمعنى العام واحد ، فمن أمثلة اختلاف اللفظ رواية " فيكشف عن ساقه " وهي لا تعارض رواية " فيكشف عن ساق " الموافقة للفظ القرآن يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ( 68 : 42 ) ولكن تنكير الساق وإسناد كشفه إلى المفعول أوسع مجالا للتأويل من إضافته إلى الرب - تعالى - ، وإسناد كشفه إليه ، فهو كالتشمير عن الساعد مثلان في كلام العرب للجد والاهتمام وشدة الخطب ، وسبب الأول أن من يريد الفرار من شيء مخوف يكشف عن ساقه ليسهل عليه العدو السريع فلا يتعثر بثوبه ، وسبب الثاني أن من يريد أن يعمل عملا باتقان وسرعة يشمر عن ذراعيه حتى لا يعوقه كماه ، وفي مجاز الأساس قامت الحرب على ساقها ، وكشف الأمر عن ساقه . قال :


عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طرادي الطير عن أرزاقها     في سنة قد كشفت عن ساقها

ا هـ .

أقول : فخرج بعضهم عبارة الحديث على هذا الاستعمال بمعنى أن أمر امتحان الله - تعالى - للناس والتنزيل بين المؤمنين والمنافقين ينتهي إلى آخر حده بتيسيره جلت حكمته السجود للمؤمنين دون المنافقين ، وذهب بعضهم إلى أن لفظ الساق ورد بمعنى الذات والنفس .

[ ص: 127 ] واستشهدوا له بقول أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - في حرب الشراة : " لا بد من قتالهم ولو تلفت ساقي " قالوا : أي نفسي . وعليه يصح أن يكون كشف الساق في الآية والحديث عبارة عن كشف الحجاب ، ويخرج عليه ما رواه عبد بن حميد ، عن الربيع بن أنس في تفسير : يوم يكشف عن ساق ( 68 : 42 ) قال : عن الغطاء فيقع من كان آمن به في الحياة الدنيا فيسجدون له ، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون ؛ لأنهم لم يكونوا آمنوا به في الحياة الدنيا ولا يبصرونه . والأول أقرب إلى أساليب اللغة ، وعليه ابن عباس وجمهور مفسري السلف ، قال ابن عباس فيما روي عنه من طرق يوم يكشف عن ساق عن شدة الأمر وجده ، هي أشد ساعة تكون يوم القيامة ، حتى يكشف الله الأمر وتبدو الأعمال ، وقال : هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة ، وسئل عكرمة عن الآية فقال : إن العرب كانوا إذا اشتد القتال فيهم والحرب وعظم الأمر فيهم قالوا لشدة ذلك : قد كشفت الحرب عن ساق ، فذكر الله شدة ذلك اليوم بما يعرفون ، وهذا من التفسير الجلي ، لا من التأويل الخفي بالمعنى الأصولي ، وأما تأويله بالمعنى اللغوي ؛ أي : ما يؤول إليه ويتحقق به في الآخرة فلا يعلمه البشر إلا إذا وصلوا إليه .

وقد بين البيضاوي أصلا آخر لكشف الساق تتجه به رواية عبد بن حميد في جعله بمعنى كشف الحجاب ، فنذكره مع عبارته في المعنى الآخر الذي عليه الجمهور لحسن بيانه له وهما قوله في تفسير : يوم يكشف عن ساق : يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب . وكشف الساق مثل في ذلك وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب قال حاتم :


أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها     وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

أو يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا ، مستعار من ساق الشجر وساق الإنسان ، وتنكيره للتهويل أو التعظيم ا هـ .

ومن ألفاظ الحديثين التي اضطرب فيها العلماء مسألة الإتيان في الصور المختلفة ، وإنكار المؤمنين له في بعضها ، ومعرفته في بعض فاختلفوا في تفسيرها وتأويلها ، فمنهم من أبعد النجعة ومنهم من قارب ، قال بعض المؤولين : المراد بإتيانه تعالى رؤيته - أقول : ولكن الإتيان كالرؤية في إيهام التشبيه ، فلم يخص دونها بالتأويل ؟ وقال بعضهم : يأتي ملك بأمره لامتحانهم ، ولكن جاء في بعض النصوص الجمع بين إتيان الرب وإتيان الملك فيمتنع أن يفسر الأول بالثاني كقوله - تعالى - : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ( 6 : 158 ) وقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا ( 89 : 22 ) على وجه ، فمخالفة ظاهر الحديث للهرب من إسناد الإتيان إلى الرب لا حاجة إليه مع هذا - فالأولى قول جمهور السلف : إنه إتيان يليق به ، لا كإتيان الخلق .

[ ص: 128 ] وقد اختلفوا في معنى الصورة وأولوها أيضا ، والأظهر أنها عبارة عما يقع به التجلي من حجاب ومنه رداء الكبرياء الذي سبق الكلام فيه ، وقد ورد لفظ الصورة في عدة روايات في الصحيحين لحديثي أبي هريرة وأبي سعيد .

( منها ) كما تقدم من حديث أبي سعيد " أتاهم رب العالمين سبحانه في أدنى صورة من التي رأوه فيها " ( ومنها ) " فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون " ( ومنها ) " في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة " ( ومنها ) " ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة " وفي رواية هشام بن سعد " ثم نرفع رؤوسنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم . فنقول : نعم أنت ربنا " وفي رواية الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة عند ابن منده " فيتمثل لهم ربهم " .

ذكر النووي في شرحه لحديث أبي هريرة من صحيح مسلم مذهب السلف في أمثال هذه الألفاظ والصفات ، وهو الإيمان بها وحملها على ما يليق بجلال الله - تعالى - وعظمته مع التنزيه كما تقدم ، ثم مذهب جمهور المتكلمين القائلين بالتأويل ، ومنه أن يجيئهم ملك في صورة ينكرونها لما فيها من صفة الحدث ، ولا تشبه صفات الإله ليمتحنهم " فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة : أنا ربكم - رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه " وقال في شرح " فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون " : المراد بالصورة هنا الصفة ، ومعناه : فيتجلى الله - سبحانه وتعالى - لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها ، وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له - سبحانه وتعالى - ؛ لأنهم يرونه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم ، فيقولون : أنت ربنا . وإنما عبر بالصورة عن الصفة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة ا هـ . وذكر الحافظ في الفتح تأويلات أخرى عن القرطبي والقاضي أبي بكر بن العربي من المالكية وابن الجوزي من الحنابلة تقرب مما اعتمده النووي .

وغرضنا من هذه النقول بيان أن أهل السنة قد أولوا بعض أحاديث الرؤية كما أولت المعتزلة والخوارج والشيعة ، فلا مقتضى للتعادي والتفرق في الدين لأجل التأويل ، وبعض هذه التأويلات أعرق في التكلف من بعض ، وما ساغ في بعض الروايات لا يسوغ في البعض الآخر ، وإذا كان الغرض من التأويل تقريب المعاني إلى الأذهان حتى لا يبقى مجال واسع للتشكيك في النصوص ، فإن الواقفين على علوم هذا العصر وفنونه قد يحتاجون إلى ما لم يكن يحتاج إليه من قبلهم ، وقد بينا في مسألة الرؤية ما اشتدت إليه الحاجة في فتوى المنار التي أشرنا إليها في هذا البحث وفي مسألة الكلام الإلهي ما فسرنا به الآيات التي سبقت فيه ، وسنزيد ذلك هنا ، وسنذكر الفتوى بنصها .

التالي السابق


الخدمات العلمية