صفحة جزء
( تخطئة من اتهم الكليم - عليه السلام - بالجرأة على ربه في هذا المقام )

كنت في أول العهد بطلبي للعلم في طرابلس الشام أسمع بعض العلماء والأدباء ينقلون عن بعض الصوفية أن موسى - عليه السلام - لم يقل لربه - عز وجل - : إن هي إلا فتنتك إلا وقد كان في مقام الأنس والإدلال الذي يطلق اللسان بمثل هذا المقال ، وأن هذا خير جواب عما قيل من أن هذا القول جرأة عظيمة تاب منها - عليه السلام - . وقال الآلوسي في تفسير الآية : والقول بأن إقدامه - عليه السلام - على أن يقول : إن هي إلا فتنتك جرأة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق ، عند أرباب الذوق ، ولا أظن أن الله - تعالى - عد ذلك ذنبا منه ، ليستغفره عنه ، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك ا هـ .

وأقول : لا مجال للقول بالجرأة ولا بالإدلال ، وما كان هذا بالذي يخطر للعربي القح ببال ، ولا للعالم الدقيق بمعاني المفردات وأساليب المقال ، وسببه كلمة " الفتنة " فقد اشتهر من عهد بعيد فيما أظن أن معناها إغراء الشر بين الناس ، وأراهم يتناقلون استعمال قوله - تعالى - : والفتنة أشد من القتل ( 2 : 191 ) بهذا المعنى ، وله أصل في استعمال العرب ؛ فإنها تطلق على الحرب ، ويوصف الشيطان بالفتان ، ولكن هذا وذاك من المعاني الفرعية لهذه المادة ، وإنما معناها الأصلي الذي تفرعا هما وأمثالهما وأضدادهما منه - الامتحان والاختبار ولا سيما الشاق ، الذي يظهر به جيد الشيء أو الشخص من رديئه ، كعرض الذهب على النار : لتصفية الغش من النضار ، ومثله الفضة ، بل كل ما أدخل النار يسمى مفتونا ، كما يقال ، دينار أو درهم مفتون ، ويسمى حجر الصائغ الفتانة ، وقد ورد تسمية الملكين اللذين يمتحنان الناس عقب الموت بفتاني القبر ، وفسروا فتنة الممات وفتنة القبر بسؤال الملكين ، وقال - تعالى - : إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ ص: 191 ] ( 8 : 28 ) أي : اختبار لكم يتبين بهما قدر وقوفكم عند الحق ، والتزامكم الكسب الحلال ، وقال - تعالى - : ونبلوكم بالشر والخير فتنة ( 21 : 35 ) .

وجملة القول : أن الفتن والفتون مصدري فتن معناهما الابتلاء للاختبار وظهور حقيقة حال المفتونين أو لتصفيتهم وتمحيصهم ، ومن الأول : قوله - تعالى - لموسى في هذه الواقعة التي نحن بصدد تفسيرها على قول بعضهم : إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ( 20 : 85 ) فقوله - عليه السلام - لربه : إن هي إلا فتنتك مأخوذ من قول ربه له : فإنا قد فتنا قومك فلا جرأة فيها ولا إدلال ، دع ما يرد هذه الدعوى من منافاتها لموقف التوبة والاستغفار - ومن الثاني : قوله - تعالى - له في قصته من سورة طه : وفتناك فتونا ( 20 : 40 ) أي : اصطفيناك من الشوائب حتى صرت أهلا لاصطناعنا ورسالتنا ، وتقدم تحقيق هذا اللفظ من قبل واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أي : وأثبت وأوجب لنا برحمتك وفضلك حياة حسنة في هذه الدنيا من العافية وبسط الرزق ، وعز الاستقلال والملك ، والتوفيق للطاعة ، ومثوبة حسنة في الآخرة بدخول جنتك ونيل رضوانك ، فهو كقوله - تعالى - فيما علمنا من دعائه : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ( 2 : 201 ) فإن ثمرة دين الله على ألسنة جميع رسله سعادة الدارين : الدنيا والآخرة إنا هدنا إليك في لسان العرب : هاد يهود هودا ( أي : من باب قال ) وتهود تاب ورجع إلى الحق فهو هائد ، وقوم هود - مثل حائك وحوك وبازل وبزل - قال أعرابي :


إني أمرؤ من مدحه هائد

وفي التنزيل إنا هدنا إليك أي : تبنا إليك ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم . قال ابن سيده : عداه بـ " إلى " ؛ لأن فيه معنى رجعنا . ابن الأعرابي : هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير ، وداه إذ عقل ، ويهود اسم القبيلة قال :

أولئك أولي من يهود بمدحه     إذا أنت يوما قلتها لم تؤنب

وقيل : إنما هذه القبيلة يهوذ فعربت بقلب الذال دالا انتهى ملخصا . والمعنى : إنا تبنا إليك مما فرط من سفهائنا من طلب الآلهة وعبادة العجل ، وتقصير خيارنا في الإنكار عليهم أو من طلب رؤيتك أو من تمرد المغرورين على شريعتك ، وكفر نعمتك - تبنا ورجعنا إليك في جملتنا مستغفرين مسترحمين كما فعل أبونا آدم إذ تاب إليك من معصيته فتبت عليه وهديته واجتبيته ، فكانت تلك سنتك في ولده - يدل على هذا المعنى فضل قوله : إنا هدنا إليك فإنه في مقام التعليل والاستدلال على استحقاق التائب المنيب بالقول والفعل والاعتقاد للمغفرة ، وقد كان مما حكاه الله - تعالى - من وحيه إلى موسى في سورة طه وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 20 : 82 ) وبماذا أجابه الله - تعالى - ؟ [ ص: 192 ] قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء أي : قد كان من سبق رحمتي غضبي أن أجعل عذابي خاصا أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة المجرمين ، وأما رحمتي فقد وسعت كل شيء من العالمين ، فهي من صفاتي القديمة الأزلية التي قام بها أمر العالم منذ خلقته ، والعذاب ليس من صفاتي بل من أفعالي المترتبة على صفة العدل ؛ ولهذا عبر عن التعذيب بالفعل المضارع ، وعن تعلق الرحمة بالفعل الماضي ، وهذه الرحمة هي العامة المبذولة لكل مخلوق ، ولولاها لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ( 35 : 45 ) وهنالك رحمة خاصة يوجبها ويكتبها تعالى لبعض المؤمنين المحسنين ، ويبذل ما شاء منها لمن شاء بغير كتابة منه ، وما كتابته إلا فضل منه ورحمة ، وأما العذاب فلم يرد في الكتاب ، ولا في خبر المعصوم أن الله - تعالى - كتبه على نفسه ، ولكن أثبته ، وتوعد به فكان لا بد من وقوعه ؛ ولأنه من متعلقات صفتي العدل والحكمة ، وقد أفرط في النظر إلى عموم الرحمة ، وغفلوا عن النظر في مقتضى العدل والحكمة ، والوعيد على الكفر والمعصية ، فذهب بعضهم إلى عدم تعذيب أحد من المؤمنين ، وآخرون إلى عدم تعذيب أحد من العالمين ، ومن هؤلاء بعض غلاة التصوف ؛ الذين زعموا أن العذاب صوري لا حقيقي ، وأنه مشتق من العذوبة ، وإن في جهنم من هم أحب إلى الله - تعالى - من كثير من أهل الجنة - جعلهم الله منهم - . وأفرط آخرون في النظر إلى مقتضى الحكمة فأوجبوا عليه تعالى تعذيب العصاة بارتكاب الكبائر لا الكفار فقط ، ولولا أن صار هذا وذاك مذهبا لسهل جمع كلمة الفريقين على الأخذ بظواهر نصوص القرآن ، في كل صفة من صفات الرحمن ، ولما قال مثل الزمخشري من جهابذة البيان ، في تفسير قوله - تعالى - عذابي أصيب به من أشاء أي : من وجب علي في الحكمة تعذيبه ، ولم يكن في العفو عنه مساغ ؛ لأنه مفسدة انتهى . فقد فسر من يشاء تعالى تعذيبه بمن وجب عليه تعذيبه ، وجماعته يقولون إن هذا وجوب عقلي لا يدخل الإمكان سواه ولا تتعلق القدرة بخلافه ، وهذا المعنى ينافي المشيئة منافاة قطعية فكيف تفسر به ؟ ! ‍ يا ليت الزمخشري لم ينتحل مذهبا ، ولم ينظر في خلاف المذاهب ، وإذا لكان كشافه حجة على أصحابها ومرجعا لهم في تحرير معاني نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف ؛ إذ كان من أدق علماء هذه اللغة فهما وأحسنهم بيانا ولما فهم ، ومسألة الوجوب على الله - تعالى - نظرية فكرية لا لغوية ، والجمع بين الحكمة والرحمة لا يقتضي أن يجب على الله - تعالى - شيء لذاته ، وليس في النصوص ما يدل على هذا الوجوب إلا أن يوجبه تعالى بمشيئته ، بمعنى كتابته وجعله أمرا مقضيا ، وليس في إيجابه على نفسه بمشيئته ما في إيجاب عقول خلقه عليه من معنى استعلاء غيره عليه تعالى - أو من إيهام كونه - عز وجل - محكوما [ ص: 193 ] بما ينافي سلطانه الاختياري الذي هو فوق كل سلطان ، بل لا سلطان سواه ، وإنما سلطان غيره به ومنه ، فلو لم يكن في اختلاف التعبير إلا مراعاة الأدب لكفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية