الأمر الثاني 
أن النبي المقدم إذا أخبر عن النبي المتأخر لا يشترط في إخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية ، في السنة الفلانية ، في البلد الفلاني ، وتكون صفته كيت وكيت بل يكون هذا الإخبار في غالب الأوقات مجملا عند العوام ، وأما عند الخواص فقد يصير جليا بواسطة القرائن ، وقد يبقى خفيا عليهم أيضا لا يعرفون مصداقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عني ، وظهور مصدق ادعائه بالمعجزات ، وعلامات النبوة ، وبعد الادعاء وظهور صدقه يصير جليا عندهم بلا ريب ؛ ولذلك يعاتبون كما عاتب 
المسيح    - عليه السلام - علماء 
اليهود  بقوله : ( 52 ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة ، ما دخلتم أنتم ، والداخلون منعتموهم ) كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل 
لوقا  ، وعلى مذاق 
المسيحيين  قد يبقى خفيا على الأنبياء فضلا عن العلماء ، بل قد يبقى خفيا على النبي المخبر عنه على زعمهم في الباب الأول من إنجيل 
يوحنا  هكذا 19 ( وهذه هي شهادة 
يوحنا  حين أرسل 
اليهود  من 
أورشليم  كهنة ولاويين ، ليسألوه : من أنت ؟ 20 ( فاعترف ولم ينكر وأقر إني لست أنا 
المسيح    ) 21 ( فسألوه : إذا ماذا أنت 
إيليا  ؟ فقال : أنا لست 
إيليا  ، فسألوه : أنت النبي ؟ ) فأجاب : لا ) 22 فقالوا له : من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك ؟ ) 23 ( قال أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب ، كما قال 
أشعيا  النبي ) 24 ( وكان المرسلون من الفريسيين ) 25 ( فسألوه وقالوا له : فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا 
إيليا  ولا النبي ؟ 
والألف واللام في لفظ النبي الواقع في الآية 21 ، 25 للعهد ، والمراد النبي المعهود الذي أخبر عنه 
موسى    - عليه السلام - في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء على ما صرح به العلماء المسيحية ، فالكهنة 
واللاويون  كانوا من علماء 
اليهود  وواقفين على كتبهم ، وعرفوا أيضا أن 
يحيى    - عليه السلام - نبي لكنهم شكوا في أنه 
المسيح    - عليه السلام - أو 
إيليا    - عليه السلام - أو النبي المعهود الذي أخبر عنه 
موسى    - عليه السلام - ، فظهر منه أن علامات هؤلاء   
[ ص: 201 ] الأنبياء الثلاثة لم تكن مصرحة في كتبهم بحيث لا يبقى الاشتباه للخواص فضلا عن العوام فلذلك سألوا أولا : أنت 
المسيح  ؟ فبعدما أنكر 
يحيى    - عليه السلام - عن كونه مسيحا ، سألوه : أنت 
إيليا  ؟ فبعدما أنكر عن كونه 
إيليا  أيضا سألوه : أنت النبي ؛ أي : ( المعهود ) ولو كانت العلامات مصرحة لما كان للشك محل ، بل ظهر منه أن 
يحيى    - عليه السلام - لم يعرف نفسه أنه 
إيليا  حتى أنكر فقال : لست أنا ، وقد شهد 
عيسى  أنه 
إيليا  في الباب الحادي عشر من إنجيل 
متى  قول ( ؟ ) 
عيسى    - عليه السلام - في حق 
يحيى    - عليه السلام - هكذا 14 ( وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو 
إيليا  المزمع أن يأتي ) وفي الباب السابع عشر من إنجيل 
متى  هكذا 10 ( وسأله تلاميذه قائلين فماذا يقول الكتبة : إن 
إيليا  ينبغي أن يأتي أولا ) 11 ( فأجاب 
يسوع  وقال لهم : إن 
إيليا  يأتي أولا ويرد كل شيء ) 12 ( ولكني أقول لكم : إن 
إيليا  قد جاء ولم يعرفوه ، بل عملوا به كل ما أرادوا ، كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم ) 13 ( حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن 
يوحنا  المعمدان ) وظهر من العبارة الأخيرة أن علماء 
اليهود  لم يعرفوه بأنه 
إيليا  ، وفعلوا به ما فعلوا ، وأن 
الحواريين  أيضا لم يعرفوه بأنه 
إيليا  ، مع أنهم كانوا أنبياء في زعم المسيحيين ، وأعظم رتبة من 
موسى    - عليه السلام - ، وكانوا اعتمدوا من 
يحيى    - عليه السلام - ، ورأوه مرارا ، وكان مجيئه ضروريا قبل إلههم ومسيحهم . وفي الآية 33 من الباب الأول من إنجيل 
يوحنا  قول 
يحيى  هكذا ( وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي : الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه ، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس ) ومعنى قوله : ( وأنا لم أكن أعرفه ) على زعم القسيسين أنا لم أكن أعرفه معرفة جيدة بأنه 
المسيح  الموعود به إلى ثلاثين سنة ما لم ينزل الروح القدس ، لعل كون ولادة 
المسيح  من العذراء لم يكن من المعاملات المختصة 
بالمسيح  ، وإلا فكيف يصح هذا لكني أقطع النظر عن هذا وأقول : إن 
يحيى  أشرف الأنبياء الإسرائيلية بشهادة 
عيسى    - عليه السلام - ، كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل 
متى  ، وإن 
عيسى    - عليه السلام - إلهه وربه على زعم المسيحيين ، وكان مجيئه ضروريا قبل 
المسيح  ، وكان كونه 
إيليا  يقينيا ، فإذا لم يعرف هذا النبي الأشرف نفسه إلى آخر العمر ، ولم يعرف إلهه وربه إلى المدة المذكورة ، وكذا لم يعرف 
الحواريون  الذين هم أفضل من 
موسى  وسائر الأنبياء الإسرائيلية مدة حياة 
يحيى  أنه 
إيليا  ، فماذا رتبه العلماء والعوام عندهم في معرفة النبي اللاحق بخبر النبي المتقدم عنه وترددهم فيه ؟ وقيافا رئيس الكهنة كان نبيا على شهادة 
يوحنا  ، كما هو - مصرح   
[ ص: 202 ] به في الآية الحادية والخمسين من الباب الحادي عشر من إنجيله ، وهو أفتى بقتل 
عيسى    - عليه السلام - وكفره وأهانه ، كما هو مصرح به في الباب السابع والعشرين من إنجيل 
متى  ، ولو كانت علامات 
المسيح  في كتبهم مصرحة بحيث لا يبقى الاشتباه ( فيها ) على أحد ، ما كان مجال لهذا النبي المفتي بقتل إلهه ، وبكفره أن يفتي بقتله وكفره . 
ونقل 
متى  ولوقا في الباب الثالث ، 
ومرقس  ويوحنا  في الباب الأول من أناجيلهم خبر 
أشعيا   في حق 
يحيى    - عليهما السلام - ، وأقر 
يحيى    - عليه السلام - بأن هذا الخبر في حقه على ما صرح به 
يوحنا  ، وهذا الخبر في الآية الثالثة من الباب الأربعين من كتاب 
أشعيا   هكذا ( صوت المنادي في البرية سهلوا طريق الرب أصلحوا في البوادي سبيلا لإلهنا ، ولم يذكر في شيء من الحالات المختصة 
بيحيى    - عليه السلام - لا من صفاته ، ولا من زمان خروجه ولا مكان خروجه ، بحيث لا يبقى الاشتباه ، ولو لم يكن ادعاء 
يحيى    - عليه السلام - بأن هذا الخبر في حقه ، وكذا ادعاء مؤلفي العهد الجديد لما ظهر هذا للعلماء المسيحية وخواصهم فضلا عن العوام ؛ لأن وصف النداء في البرية يعم أكثر الأنبياء الإسرائيلية الذين جاءوا من بعد 
أشعيا    - عليه السلام - ، بل يصدق على 
عيسى    - عليه السلام - أيضا ؛ لأنه كان ينادي مثل نداء 
يحيى    - عليه السلام - : توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماء ، وسيظهر لك في ( الأمر السادس ) حال الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق 
عيسى    - عليه السلام - عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام . ولا ندعي أن الأنبياء الذين أخبروا عن 
محمد    - صلى الله عليه وسلم - كان إخبار كل منهم بصفته مفصلا بحيث لا يكون فيه مجال التأويل للمعاند . 
قال الإمام 
 nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي  في ذيل تفسير قوله - تعالى - : 
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون   ( 2 : 42 ) : واعلم أن الأظهر في الباء في قوله : ( بالباطل ) أنها باء الاستعانة كالتي في قولك : كتبت بالقلم . والمعنى : لا تلبسوا الحق ، بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين ، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر 
محمد    - عليه السلام - كانت نصوصا خفية تحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات انتهى كلامه بلفظه . 
وقال المحقق 
عبد الحكيم السيالكوتي  في حاشيته على 
البيضاوي    : هذا فصل يحتاج إلى مزيد شرح ، وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بلفظة معرضة ، وإشارة مدرجة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم . وذلك لحكمة إلهية ، وقد قال العلماء : 
ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم   - لكن بإشارات ، ولو كان منجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه ، ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني ، ومن السرياني إلى العربي . وقد ذكرت محصلة ألفاظ من التوراة والإنجيل   
[ ص: 203 ] إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته - عليه السلام - ، بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي ، وعند العامة خفي . انتهى كلامه بلفظه .