صفحة جزء
وجوب تبليغ دعوة الإسلام ورسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجميع البشر :

ومما يدخل في أحكام رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس كافة أن الله تعالى لا يقبل إيمان أحد بلغته دعوته على وجهها الصحيح إلا بالإيمان به واتباعه ، وأنه يجب على أمته - أي أمة الإجابة - وهم الذين اهتدوا بما جاء به من الإيمان والإسلام ، أن يبلغوا دعوته لجميع الناس من جميع الأمم ، على الوجه الذي يحرك إلى النظر ، ويجب أن يكون القائمون بذلك منهم جماعات تتعاون عليه إذ لا يغني الأفراد غناء الجماعات سواء أكانت الدعوة إلى أصل الإيمان الإجمالي - الذي هو بدء الدعوة - أم إلى الشرائع التفصيلية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويشمل ذلك كله قوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ( 3 : 104 ) وقد ذكرنا في تفسيرها ما بسطه شيخنا الأستاذ الإمام من كون الراجح المختار أن قوله تعالى : ولتكن منكم أمة تجريد كقول القائل : ليكن لي منك صديق - أي لتكن صديقا لي ، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يكونوا دعاة إلى الخير الأعظم الذي هداهم الله إليه ، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، كل على قدر حاله واستطاعته كما كان المسلمون في الصدر الأول ، وأنه مع ذلك يجب أن يتألف للدعوة جماعات تعد لها عدتها ، وأن هذا متعين على الوجه الآخر في الآية وهو جعل " منكم " للتبعيض إلخ . [ راجع ص22 - 438 ط الهيئة ] .

وتبليغ الدعوة إلى الإسلام على الوجه الذي تقوم به الحجة يختلف باختلاف الزمان والمكان والأفراد والأقوام ، فقد كان مشركو العرب في عصر البعثة يؤمنون بأن الله تعالى هو رب العالمين ، وخالق الخلق ومدبر أموره ، وإنما كانوا يشركون بعبادته غيره من الملائكة والجن والأصنام ، زاعمين أنهم يقربونهم إليه زلفى ، ويشفعون لهم عنده ، فيقضي لهم حاجتهم من جلب خير ودفع ضر بوساطتهم ، وكانوا ينكرون البعث والحياة بعد هذه الحياة الدنيا وينكرون [ ص: 263 ] الرسالة والوحي من الله لبعض البشر ، فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوهم أولا إلى التوحيد الذي هو عنوان الإسلام ، وباب الدخول فيه ; لأنه الركن الأعظم ، ثم إنه كان يقيم لهم الحجج والبراهين علىتوحيد الألوهية ، وهو إفراد الله وحده بالعبادة ، وعلى حقية الرسالة والبعث والجزاء مع دفع ما عندهم من الشبهات على ذلك كما تراه مفصلا في سورة الأنعام التي هي أجمع سورة في القرآن لذلك ، وكذا في غيرها من السور المكية ، ويلي ذلك دعوتهم إلى أصول الشريعة وقواعدها الكلية في الآداب والفضائل والحلال والحرام ، ثم إلى الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد . وأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكانوا يؤمنون بالله وبالوحي والرسل والبعث والجزاء ، ولكن دخلت على أكثرهم الوثنية القديمة بجميع أصولها وفروعها ولاسيما النصارى الذين أقاموا عقيدتهم على أساس التثليث المعروف عن قدماء المصريين والهنود وغيرهم من الوثنيين ، وكان اليهود يزعمون أن النبوة والرسالة محصورة في بني إسرائيل لا يمكن أن يبعث الله رسولا من غيرهم ، وكانت التوراة قد فقدت في غزوة البابليين لهم ، ثم كتب بعضهم لهم توراة بعد عدة قرون هي عبارة عن تاريخ ديني مشتمل على قصص الأنبياء إلى عهد موسى وهارون ، وعلى ما تذكر الكاتب من شريعة التوراة مع تحريف وأغلاط كثيرة ، وكان الإنجيل الذي جاء به عيسى عليه السلام من وعظ وتعليم وبشارة قد ادعاه كثيرون فظهر في العصر الأول بعده زهاء سبعين إنجيلا اختار الجمهور الذي جمع شمله الملك قسطنطين - الوثني الذي تنصر سياسة - أربعة منها فيها كثير من الخلاف والتعارض ، وذلك بعد المسيح بثلاثة قرون ، وفشا فيهم منذ عهد هذا الملك الوثني المتنصر عبادة السيدة مريم عليها السلام وغيرها من الصالحين حتى صارت الكنائس النصرانية كهياكل الأوثان مملوءة بالصور والتماثيل المعبودة - فكانت دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم إلى الإسلام وحججه عليهم التي أنزلها الله عليه في القرآن تختلف من بعض الوجوه عن دعوة المشركين الأصليين ، كما تراه مبسوطا في السور الطوال الأربع الأولى : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة - ففي الجزء الأول من البقرة من القرآن : يوجه أكثر الكلام إلى اليهود ، وذكرت فيه النصارى بالعرض - وأوائل سورة آل عمران نزلت في حجاج نصارى نجران ، وفي أواخر النساء كلام في أهل الكتاب أكثره في النصارى . وجل سورة المائدة في أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة .

وأما هذا العصر فقد كثرت فيه الملاحدة والمعطلة ، وتجددت للكفار على اختلاف فرقهم شبهات جديدة يتوكئون فيها على مسائل من العلوم العصرية لم تكن معروفة عند الأقدمين ، وحدثت للناس آراء ومذاهب في الحياة فيها الحسن والقبيح ، والنافع [ ص: 264 ] والضار ، بل منها ما قد يفضي إلى فساد العالم ، وتقويض دعائم العمران ، ومثار ذلك كله ذيوع التعاليم المادية ، وفوضى الآداب ، وتدهور الأخلاق ، وتغلب الرذائل على الفضائل ، وقد ظهر هذا الفساد في أفظع صورة في حرب المدنية الكبرى وما ولدته من تفاقم شره المستعمرين وشرهم وفظائعهم في الشرق ، وانتشار البلشفية ومفاسدهم في البلاد الروسية وغيرها ، وبث دعوتها في العالم - فصار من الواجب مراعاة ذلك في الدعوة إلى الدين والاحتجاج له ، ورد الشبه التي توجه إليه . وقد ذكرت في تفسير آية سورة آل عمران المشار إليها آنفا ( آي 3 : 104 ) حاجة الداعي إلى الإسلام في هذا الزمان إلى أحد عشر علما منها السياسة ولغات الأقوام الذين توجه إليهم الدعوة ، وأشرت هنالك إلى مقالة كنت كتبتها قبل ذلك في المنار في الدعوة وطريقها وآدابها .

التالي السابق


الخدمات العلمية