صفحة جزء
( الشبهة الثانية ) قول هذا الأزهري " وإن رجعنا إلى قول الفقهاء - ; لأن الجواز وعدمه من مباحثهم - رأينا الإمام الشافعي روي عنه في الأم أن للأعجمي أن ينطق بالقرآن مترجما إلى غير العربية في الصلاة ، وأن ما ينطق به إذا أراد القرآن به صحت صلاته ، وعندما ينطق به قراءة وقرآنا ، وأنه يجوز وجود جماعة تصلي في مسجد يقرأ الإمام في تلك الصلاة بلسان أعجمي ، ويقرأ المؤتمون به بلسان أعجمي ، كذلك أم القرآن وغيرها من السور ما داموا لا يحسنون العربية " اهـ .

يا للعجب ويا للفوضى : الإمام الشافعي يجيز للأعجمي أن يقرأ القرآن في الصلاة مترجما إلى غير العربية ويسمي الترجمة قرآنا ؟ الإمام الشافعي يجوز إقامة صلاة الجماعة العامة في المسجد بإمام يقرأ بلسان أعجمي ، وجماعة يقرؤون بلسان أعجمي سواء في ذلك أم القرآن وغيرها من السور ؟ وماذا بقي ؟ إذا كان الشافعي يجيز قراءة القرآن في الصلاة باللسان الأعجمي للإمام وللجماعة وللأفراد بمثل هذا الإطلاق الذي حكاه هذا العالم الأزهري عن الأم ، فما معنى ذلك البيان المفصل الذي أورده في رسالته في الأصول في إثبات كون القرآن عربيا ، وإنه يجب على كل مسلم أن يتعلم العربية ليقرأه بها في الصلاة كما أنزله الله إلخ ؟ .

( والجواب ) عن هذه الشبهة أن صاحبها تقول على الشافعي ما لم يقل ، على أنه كان [ ص: 289 ] قد نقل بعض عبارته بتصرف ، ثم فسرها بما نقلناه عنه ، فقصر في النقل ، وأخطأ في الفهم ، ولا نتهمه بتعمد التقول على الإمام الشافعي ، وهذا نص عبارة الأم : " فإن أم أعجمي أو لحان فأفصح بأم القرآن . أو لحن لا يحيل معنى شيء منها أجزأته وأجزأتهم ، وإن لحن فيها لحنا يحيل معنى شيء منها لم تجز من خلفه صلاتهم وأجزأته إذا لم يحسن غيره ، كما يجزيه أن يصلي بلا قراءة إذا لم يحسن القراءة . ومثل هذا إن لفظ منها بشيء بالأعجمية ، وهو لا يحسن غيره أجزأته صلاته ، ولم تجز من خلفه قرءوا معه أو لم يقرءوا ، وإذا ائتموا به فإن أقاما معا أم القرآن أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غيرها أجزأته ، ومن خلفه صلاتهم إذا كان أراد القراءة لما نطق به من عجمة ولحن . فإن أراد به كلاما غير القراءة فسدت صلاته ، فإن ائتموا به فسدت صلاتهم " اهـ .

ذكرت هذه الأحكام في الأم في فصل عنوانه ( إمامة الأعجمي والأعجمي كالأعجم من في لسانه لكنة وفهاهة ، سواء كان عربيا أو عجميا ، وضده الفصيح الجيد النطق كما في المصباح وغيره ، وحكم الأعجمي أنه يغتفر له ما ذكر آنفا من اللحن في الصلاة منفردا وإماما أو منفردا فقط ، كما يغتفر ترك القراءة فيها مطلقا لمن لا يحسنها . وقوله الأخير الذي لم يفهمه الناقل فكان محل الشبهة وهو " وإذا ائتموا به " إلخ . معناه أن الأعجمي الذي لا يحسن القراءة إذا أم مثله فأقاما معا أم القرآن ، أي أحسن كل من الإمام والمأموم قراءة الفاتحة ، أو لحنا جميعا في غير الفاتحة ، أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غير الفاتحة كانت صلاة كل منهما صحيحة ; لأن اللحن والعجمة والرطانة الأعجمية في غير الفاتحة لا تبطل الإمامة ولا الصلاة ، إذ ركن القراءة في الصلاة هو الفاتحة ، وما عداه من القرآن فهو مستحب لا فرض ولا واجب - وليس عند الشافعي في الصلاة واجب غير فرض - والمفروض أن ما ذكر من النطق بالأعجمية أو باللسان الأعجمي في غير الفاتحة سببه العجز عن القراءة الفصيحة لا التلاعب ولا قصد غير القراءة ، وإلا بطلت صلاتهما .

ولا يدخل في هذا الباب شيء من تعمد ترجمة القرآن والاستغناء بالعجمي المترجم به عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى ، وتسميته قرآنا . كيف وقد صرح الشافعي في الرسالة بوجوب قراءة القرآن في الصلاة وغيرها بالعربية كما أنزله الله تعالى ، وبوجوب أداء سائر الأذكار المأمور بها بالعربية أيضا . وبوجوب تعلم العربية على كل مسلم لذلك ، وهذا نص عبارته ( كما في ص9 من الطبعة الأميرية التي مع كتاب الأم له ) : .

" فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده ، حتى يشهد به أن لا إله [ ص: 290 ] إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ويتلو به كتاب الله تعالى ، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير ، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك " إلخ .

هذا نص الشافعي بعد أن أطال في كون كل ما في القرآن عربي ، وكتب مذهبه متفقة في المسألة كسائر كتب المسلمين وأتباعه أشدهم فيها - أليس من العجيب مع هذا أن يتجرأ عالم أزهري فيعزوا إلى رواية الأم عن الشافعي ما يأتي على إطلاقه : .

( 1 ) إن للأعجمي أن ينطق بالقرآن مترجما إلى غير العربية في الصلاة .

( 2 ) وإن ما ينطق به إذا أراد القراءة به صحت صلاته ، وعد ما ينطق قراءة وقرآنا .

( 3 ، 4 ) وإنه يجوز وجود جماعة تصلي في مسجد يقرأ الإمام في تلك الصلاة بلسان أعجمي أم القرآن ، وغيرها من السور ما داموا لا يحسنون العربية .

أين ذكر الشافعي الترجمة وأباحها للأعجمي ؟ اللهم هذا افتراء عليه .

أين أجاز الشافعي إقامة الجماعة في مسجد يقرأ إمامه فيها الفاتحة وغيرها بلسان أعجمي إلخ ؟ وعبارته المنقولة عنه آنفا صريحة في كون عجز الأعجمي عن الإفصاح ولو ببعض الفاتحة عذرا له دون من يصلي خلفه ، فإنهم لا تصح صلاتهم معه ، وعدم الإفصاح بالألفاظ العربية شيء والترجمة بلسان عجمي شيء آخر .

وجملة القول أن عبارة الإمام الشافعي في هذا المقام خاصة بمن لا يحسن النطق بالقرآن ، وما يعذر به هو ومن يأتم به ، ومثل هذا العجز معهود في كل زمان نسمعه بآذاننا ممن يتعلمون لغة غير لغتهم ولا يتقنونها من العرب أو العجم ، فهم يحرفون ويلحنون ويخلطون ألفاظا من اللغة التي يجيدونها باللغة التي لا يجيدونها بغير اختيار ، ونعيد القول ونؤكده بأن تعمد ترجمة القرآن والقراءة به لا تدخل في شيء من كلام الإمام ، ولم تخطر ببال أحد من أحد أتباعه في مذهبه عندما شرحوا كلامه ، وفصلوا أحكامه ، ولا تخطر ببال أي قارئ له يفهم ما يقرأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية