صفحة جزء
ثم فصل تعالى ما في هذه الآية من الإجمال بقوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها . ( الذرء ) فسروه بالخلق ، وذرأنا : خلقنا ، كما قال ابن عباس وغيره ، وهو تفسير مراد ، ولكل مادة معنى خاص ، وقد تقدم معنى مادة " خلق " وسنعيده ، وقال الراغب : الذرء ( إظهار الله تعالى ما أبدأه ) يقال : ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم ، وذكر هذه الآية وغيرها وقال : وقرئ تذرؤه الرياح ، وفي اللسان بعد تفسير الذرء بالخلق والاستشهاد بالآية : وقال عز وجل : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ( 42 : 11 ) قال أبو إسحاق : المعنى يذرؤكم به أي يكثركم بجعله منكم ومن الأنعام أزواجا . . ثم قال : " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ " وكأن الذرء مختص بخلق الذرية . وفي حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى خالد " وإني لأظنكم آل المغيرة ذرء النار " يعني خلقها الذين خلقوا لها ، ويروى ( ذرو النار ) ، يعني الذين يفرقون فيها ، من ذرت الريح التراب إذا فرقته انتهى المراد منه . وفي الأساس : ذرأنا الأرض وذروناها ، وذرأ الله الخلق وبرأ إلخ .

فإذا تأملت مع هذه الأقوال استعمال القرآن لهذا الحرف في النبات والحيوان والإنسان خاصة ، علمت أن الذرء في أصل اللغة بمعنى بث الأشياء وبذرها وتفريقها وتكثيرها ، وأن إسنادها إلى الله تعالى بمعنى خلق ذلك أي إيجاده ، كما أن أصل معنى الخلق التقدير ، ويسند إلى الله تعالى بمعنى إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا ; ولهذا عطف الذرء والبرء على الخلق في حديث الدعاء المتقدم .

و " الجن " الأحياء العاقلة المكلفة الخفية غير المدركة بحواس البشر ، ولعل تقديمهم هنا في الذكر على الإنس أنهم أكثر أهل جهنم ; لأنهم أجدر وأعرق في الصفات الآتية التي هي سبب استحقاقها ، وكون خلق أصل نوعهم وأوله من مارج من نار ، لا يقتضي عدم تألمهم [ ص: 351 ] من النار كما قد يتوهم ، فإن بين حقيقة نوع البشر وحقيقة الطين الذي خلق أبوهم منه بونا عظيما يقاس عليه الجن .

و " القلوب " جمع قلب ، وهو يطلق في اللغة العربية على المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من جسد الإنسان ، إذا كان موضوع الكلام جسد الإنسان ، ويطلق عند الكلام في نفس الإنسان وإدراكه وعلمه وشعوره وتأثير ذلك في أعماله ، على الصفة النفسية واللطيفة الروحية التي هي محل الحكم في أنواع المدركات ، والشعور الوجداني للمؤلمات والملائمات ، أعني أنه يطلق بمعنى العقل ، وبمعنى الوجدان الروحي ، الذي يعبر عنه في عرف هذا العصر بالضمير ، وهو تعبير صحيح . واشتقاق العقل من عقل البعير لمنعه من السير ، وفي معنى القلب اللب الذي هو جوهر الشيء ويكثر في التنزيل ، ومنه النهية وجمعها نهى ، ومنه قوله تعالى في سورة طه : إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( 20 : 128 ) .

ومن استعماله في معنى العقل قوله تعالى في سورة الحج : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( 22 : 46 ) وهي بمعنى الآية التي نفسرها ، وحذف منها " أو أعين يبصرون بها " استغناء عنه بدلالة ما بعده عليه ، والآيات المبصرة بالأعين في السياحة في الأرض أكثر من المسموعة ، ومن استعماله في معنى الوجدان النفسي قوله تعالى في سورة الزمر . وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ( 39 : 45 ) وقوله في سورة آل عمران والأنفال سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ( 8 : 12 ) وقوله في النازعات : قلوب يومئذ واجفة ( 79 : 8 ) فالاشمئزاز والرعب والوجيف شعور وجداني ، لا حكم عقلي ، وقد يستعمل المعنيين معا ، والأقرب أن منه فقه القلوب هنا ، فإن الفقه لا يحصل إلا بنوع من الإدراك ، يصحبه وجدان يبعث على العمل ، كما يعلم مما نذكره في تحقيق معناه ، وقد يتعارض مقتضى العقل والوجدان ، كوجدان اللذة والألم والحب والبغض التي تحمل على أعمال مخالفة لحكم العقل في المنافع والمضار .

وسبب استعمال القلب بمعنى الوجدان الحسي والمعنوي وهو الضمير ، ما يشعر به المرء من انقباض أو انشراح عند الخوف والاشمئزاز أو السرور والابتهاج ; ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لوابصة حين جاء يسأله عن البر والإثم وقد علم - صلى الله عليه وسلم - ذلك قبل السؤال استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك رواه الإمام أحمد والدارمي [ ص: 352 ] بإسناد حسن ومسلم مختصرا ، ثم توسعوا في استعماله فاستعملوه بمعنى الإدراك العقلي المؤثر في النفس لا مطلق التصور والتصديق . فهو لا ينافي كون مركزهما الدماغ ، على أن الاستعمالات اللغوية ، لا يجب أن توافق الحقائق العلمية .

و " الفقه " قد فسروه بالعلم بالشيء والفهم له - وكذا بالفطنة كما في جل المعاجم أو كلها ، وقالوا : فقه ( كعلم وفهم ) وزنا ومعنى ، وقالوا : فقه ( ككرم وضخم ) فقاهة أي صار الفقه وصفا وسجية له ، وقال الراغب : الفقه هو التوصل بعلم شاهد إلى علم غائب . قال السيوطي بعد نقله : فهو أخص من العلم .

وقال ابن الأثير في النهاية : إن اشتقاقه من الشق والفتح . أي هذا معناه الأصلي فهو كالفقء بالهمزة ، وهي تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما ، وذكر الحكيم الترمذي هذا ، واستدل به على أن الفقه بالشيء هو معرفة باطنه ، والوصول إلى أعماقه ، فمن لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيها ، وذكر أصحاب المعاجم أن اسم الفقه غلب على علم فروع الشريعة ، أي من العبادات والمعاملات ، وهو اصطلاح حادث لا يفسر به ما ورد في الكتاب والسنة من هذه المادة ، والتحقيق أنهم لم يكونوا يسمون كل من يعرف هذه الفروع فقيها ، كما ترى من عبارة الغزالي الآتية ، ولغيره ما هو أوضح منها ، فقد اشترطوا فيه معرفتها بدلائلها .

وذكر الغزالي في ( بيان ما يدل من ألفاظ العلوم ) أن لفظ الفقه تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل ، إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها . . . ( قال ) ، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ، ومفسدات الأعمال ، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدلك عليه قوله تعالى : ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ( 9 : 122 ) وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة ، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف ، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه ، كما نشاهد الآن من المتجردين له . وقال تعالى : لهم قلوب لا يفقهون بها وأراد به معاني الإيمان دون الفتوى اهـ . وروي عن أبي حنيفة تفسيره بمعرفة النفس ما لها وما عليها .

وأقول : ذكرت هذه المادة في عشرين موضعا من القرآن تسعة عشر منها تدل على أن المراد به نوع خاص من دقة الفهم ، والتعمق في العلم ، الذي يترتب عليه الانتفاع به ، وأظهره نفي الفقه عن الكفار والمنافقين ; لأنهم لم يدركوا كنه المراد مما نفي فقهه عنهم ، ففاتتهم المنفعة من الفهم الدقيق ، والعلم المتمكن من النفس ، ومنه قول قوم شعيب لنبيهم : [ ص: 353 ] ما نفقه كثيرا مما تقول ( 11 : 91 ) وإن تراءى لغير الفقيه أنه ليس منه ، فإنهم كانوا يفهمون كل ما يقول فهما سطحيا ساذجا; لأنه يكلمهم بلغتهم ، ولكن لم يكونوا يبلغون ما في أعماق بعض الحكم والمواعظ من الغايات البعيدة لعدم تصديقهم إياه ، وعدم احترامهم له ، ولأنه مخالف لتقاليدهم وأهوائهم الصادة لهم عن التفكير فيه والاعتبار به ، وأما الموضع العشرون فهو قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ( 20 : 27 ، 28 ) وهو لا ينافي ما ذكر ; لأن فصاحة لسان الداعية إلى الدين والواعظ المنذر تعين على تدبر ما يقول وفقهه .

التالي السابق


الخدمات العلمية