صفحة جزء
[ ص: 368 ] وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي: ادعوه بها أيها المؤمنون ، واتركوا وأهملوا بلا مبالاة جميع الذين يلحدون في أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن منهج الحق الوسط ، إلى بنيات الطريق ومتفرق السبل ، من تحريف أو تأويل ، أو تشبيه أو تعطيل ، أو شرك أو تكذيب ، أو زيادة أو نقصان ، أو ما ينافي وصفها بالحسنى وهو منتهى الكمال ، ذروا هؤلاء الملحدين ، ولا تبالوا بهم ، وكأن قائلا يقول : ولماذا نذرهم في خوضهم يعمهون ؟ فأجاب بقوله تعالى : سيجزون ما كانوا يعملون أي: سيلقون جزاء عملهم عن قريب ، بعضهم في الدنيا قبل الآخرة ، وإنما يعمهم جميعهم عقاب الآخرة ، إلا من تاب منهم قبل الموت .

وإننا نفصل هذا التفسير الإجمالي بعض التفصيل لفظا ومعنى فنقول : .

" ذروا " أمر لم يرد في اللغة استعمال ماضيه ولا مصدره ، وهو بمعنى الترك والإهمال ، فهو بوزن ودع الشيء يدعه ودعا ، ومعناه ، إلا أن هذا قد استعمل ماضيه ومصدره قليلا ، وذاك لم يستعمل منه إلا المضارع " يذر " والأمر " ذر " وتعدد ذكرها في التنزيل ، وزعم الراغب في مفرداته أن معناه : قذف الشيء لقلة الاعتداد به ، وأورد من الشواهد عليه من القرآن ما هو ظاهر فيه ، وأشار إلى شاهد واحد يخالفه في الظاهر ، ووعد ببيان دخوله في موضع آخر ، ولعله يعني تفسيره للقرآن ، وهو قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ( 2 : 234 ) ولم يقل : ويتركون ويخلفون ، ولعله أجاب عنه بأن المراد : ويتركون أزواجاهن عرضة للإهمال ، وعدم الإنفاق عليهن ، فليوصوا لهن ، وإلا كانوا هم المهملين لهن ، والقاذفين بهن في بيداء الإهمال والحاجة . ويرد عليه أيضا قوله تعالى حكاية عن المخلفين في سورة الفتح : ذرونا نتبعكم ( 48 : 15 ) وكل ما عداه من استعمال القرآن لهذه الكلمة يظهر فيه معنى الترك لعدم المبالاة والاهتمام . لا القذف كما عبر به ، ومنه قوله تعالى في ناقة صالح حكاية عنه : فذروها تأكل في أرض الله ( 7 : 73 ) وأظهر منه قوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ( 3 : 179 ) أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ( 7 : 127 ) رب لا تذر على الأرض ( 71 : 26 ) ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ( 76 : 27 ) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ( 26 : 166 ) وتذرون الآخرة ( 75 : 21 ) ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( 6 : 91 ) فذرهم وما يفترون ( 6 : 112 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( 43 : 83 ) إلخ .

وأما الإلحاد فمعناه العام الميل والازورار عن الوسط حسا أو معنى ، والأول الأصل فيه كأمثاله ، ومنه لحد القبر للميت ، وهو ما يحفر في جانب القبر من جهة القبلة مائلا عن وسطه .

[ ص: 369 ] ويسوى ببناء ونحوه ، ويوضع فيه الميت ، ويقابله الضريح أو الشق ، وهو وضعه في وسط القبر ( واللحد أفضل في الشرع ) يقال : لحد القبر وألحده ، ولحد للميت وألحد ، أي جعل له لحدا ، ومن كلامهم : ألحد السهم الهدف ، أي مال في أحد جانبيه ، ولم يصب وسطه ، ولما كان " خيار الأمور أوساطها " كان الانحراف عن الوسط مذموما ، ومنه أخذ التعبير عن الكفر والتعطيل والشك في الله تعالى بالإلحاد وسمي ذووه الملاحدة والملحدون .

قال الراغب : اللحد حفرة مائلة عن الوسط ، وقد لحد القبر حفره وألحده ، وقد لحدت الميت وألحدته : جعلته في اللحد ، ويسمى اللحد ملحدا ، وهو اسم موضع من ألحدته . ولحد بلسانه إلى كذا مال . قال تعالى : لسان الذي يلحدون إليه ( 16 : 103 ) من لحد ، وقرئ ( يلحدون ) من ألحد ، وألحد فلان : مال عن الحق ، والإلحاد ضربان : إلحاد إلى الشرك بالله ، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب ، فالأول ينافي الإيمان ويبطله ، والثاني يوهن عراه ولا يبطله ، ومن هذا النحو قوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ( 22 : 25 ) وقوله : الذين يلحدون في أسمائه ( 7 : 180 ) والإلحاد في أسمائه على وجهين : أحدهما أن يوصف بما لا يصح وصفه به ، والثاني أن يتأول أوصافه على ما لا يليق به اهـ .

أقول : قرأ حمزة ( يلحدون ) بفتح الياء هنا ، وفي قوله تعالى في فصلت : إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ( 41 : 40 ) من لحد ، والباقون بضمها من ألحد ، ومعناهما واحد كما علمت ، وأخطأ من زعم أن الأول لا يكاد يسمع .

وفي التفسير المأثور عن ابن عباس - رضي الله عنه - الإلحاد التكذيب ، وقال في تفسيره هنا : اشتقوا العزى من العزيز ، واللات من الله ، وعن الأعمش أنه قرأ " يلحدون " بفتح الياء من اللحد وفسره بقوله : يدخلون فيها ما ليس منها ، وعن قتادة في تفسيره روايتان إحداهما : يشركون والثانية : يكذبون في أسمائه ، وملخص هذه الروايات : أن من الإلحاد في أسمائه تعالى التكذيب بها ، وإنكار معانيها ، وتحريفها بالتأويل ونحوه ، وتسميته تعالى بما لم يسم به نفسه ، وبما لا يليق بكماله وجلاله ، وإشراك غيره به فيها ، وهذان قسمان : إشراك في التسمية ، وهو يقصر على الأسماء الدالة على معنى الألوهية والربوبية وخصائصهما ، وإشراك في المعاني وهي قسمان : معان خاصة بالألوهية والربوبية ، ومعان غير خاصة في نفسها ، وإنما الخاص به [ ص: 370 ] تعالى كمالها ، وهو معنى كونها الحسنى كما يدل عليه تقديم الخبر في قوله : ولله الأسماء الحسنى أي: له وحده دون غيره كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية