صفحة جزء
( تحقيق معنى الفكر والتفكر والنظر العقلي )

من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي ، وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم ، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى ، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين ، ويتجلى تفسير الآيتين : [ ص: 385 ] الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها ، وهو اسم من فكر يفكر فكرا ( من باب ضرب ) وفكر بالتشديد وتفكر ، ومثله الفكرة والفكرى . وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور ، وقال الراغب : الفكرة مطرقة للعلم إلى المعلوم - والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل . . . ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ، ولهذا روي " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " إذ كان منزها أن يوصف بصورة . ثم أورد الشواهد من الآيات ، ومنها آية الأعراف هذه . ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني ، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ .

وقال علماء المنطق : الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي ، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير ، واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات ، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال ، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال ، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم ، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية ، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات ، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته .

وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه : هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية ، يقال : نظرت فلم تنظر ، أي لم تتأمل ولم تترو ، وقوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ( 10 : 101 ) أي تأملوا . واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة ، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة . اهـ . وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر ، هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر ؟ ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة .

واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير ، كما أن مبتدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ( 88 : 17 ) إلخ وقوله : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ( 50 : 6 ) ؟ إلخ . ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات ، والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها ، والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي ، وهو ملكوت السماوات والأرض ، والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل ، وهما وما في معناهما يدلان [ ص: 386 ] على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي : النظر العقلي ، والتفكر ، اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية