1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
صفحة جزء
ثم قال : ( وأقام الصلاة ) أي : أداها على أكمل وجه وأقومه وأدامها ، وهذا هو الركن الروحاني الركين للبر ، وإقامة الصلاة التي يكرر القرآن المطالبة بها لا تتحقق بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فقط . وإن جاء بها المصلي تامة على الوجه الذي يذكره الفقهاء ; لأن ما يذكرونه هو صورة الصلاة وهيئتها ، وإنما البر والتقوى في سر الصلاة وروحها الذي تصدر عنه آثارها من النهي عن الفحشاء والمنكر ، وقلب الطباع السقيمة ، والاستعاضة عنها بالغرائز المستقيمة ، فقد قال تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) ( 70 : 19 - 22 ) فمن حافظ على الصلاة الحقيقية تطهرت نفسه من الهلع والجزع إذا مسه الشر ، ومن البخل والمنع إذا مسه الخير ، وكان شجاعا كريما قوي العزيمة شديد الشكيمة لا يرضى بالضيم ، ولا يخشى في الحق العذل واللوم ; لأنه بمراقبته لله تعالى في صلاته ، واستشعاره عظمته وسلطانه الأعلى في ركوعه وسجوده يكون الله تعالى غالبا على أمره ، فلا يبالي ما لقي من الشدائد في سبيله ، وما أنفق من فضله ابتغاء مرضاته ، وصورة الصلاة لا تعطي صاحبها شيئا من هذه المعاني ، فليست بمجردها من البر في شيء ، وإنما شرعت للتذكير بذلك السناء الإلهي ، والاستعانة بها على توجه القلب إليه ، واستغراقه في ذكره ومناجاته ودعائه ، وهو روحها وسرها الذي يستعان به وبالصبر على جميع المقاصد العالية والمجاهدات ، فهذا هو البر . وقد تقدم القول في معنى الصلاة وإقامتها والاستعانة بها ، وإنما نعيد التذكير كلما أعاده الكتاب العزيز .

( وآتى الزكاة ) المفروضة ; أي : أعطاها مستحقيها . قلما تذكر إقامة الصلاة في القرآن إلا ويقرن بها إيتاء الزكاة ، فالصلاة مهذبة للروح ، والمال - كما يقولون - قرين الروح ، فبذله في سبيل الحق ركن عظيم من أركان البر ، وآية من أظهر آيات الإيمان ، ولذلك أجمع الصحابة عليهم الرضوان على محاربة مانعي الزكاة ، ولكن الذين لا يعرفون من الدين والإيمان إلا تقليد بعض الكتب التي ألفها الميتون ، ونشرها الرؤساء والحاكمون ، يمنعون الزكاة عمدا [ ص: 96 ] باسم الدين ، بما تعلمهم هذه الكتب من الحيل التي تمنع بها الحقوق الثابتة ، وآكدها الزكاة التي ذكر الكتاب مصارفها الثمانية ، وقضى بأن تبقى ببقائها كلها أو بعضها ، ويسمونها حيلا شرعية ، وما نسبتها إلى الشرع إلا كنسبة منجل الحاصد إلى الزرع ، أو العاصفة في القلع .

فمانع الزكاة يهدم في الظاهر ركنا من أعظم أركان الإسلام ، وينقض في الباطن من تحته أساس الإيمان ; لأنه يحتال على الله تعالى في إبطال فريضته ، وإزالة حكمته ، فهو لم يرض بحكمه ، ولم يذعن لأمره ، بل فسق عن أمر مولاه ، واتخذ إلهه هواه ، وتجرأ على تبديل كلمات الله ، فنسخ الآيات الكثيرة من كتابه الآمرة بإيتاء الزكاة على أنها آية الإيمان وصلاح العمران ، ثم هو يسمي هذا الحنث العظيم ، والجرم الكبير حكما مشروعا ، ودينا متبوعا ووالله إن نسبة هذا السفه إلى الشرع لأدل على الكفر من ذلك المنع ، إذ لا يعقل أن يشرع الله لنا شيئا ويؤكده علينا سبعين مرة ثم يرضى بأن نحتال عليه ونخادعه في تركه ، ونزعم أنه - تقدس وتعالى - أذن لنا بهذه المخادعة والمخاتلة ! إذن لماذا فرض وأوجب ، ورغب ورهب ، ووعد وأوعد ، وحكم وأحكم ؟ هل كان ذلك لغوا من الكلام ، وجهلا بحكمة وضع الأحكام ؟ على أن تلك الحيل الشيطانية لم يجد لها واضعوها شبهة من تحريف كتاب الله وتأويل آياته كما هي طريقتهم في اتباع أهوائهم ، وتأييد آرائهم ، فإن الله تعالى لم يذكر في كتابه الحول والنصاب ، وإنما ذكر ما هو روح الدين ومقصده وهو إيتاء الزكاة وكونه آية الإيمان ، وتركه آية النفاق والكفران .

وقد بينت السنة بالهدى والعمل كيفية الأخذ وقدر المأخوذ وسائر الأحكام ، وليس فيها شيء يصح أن يكون شبهة لإبطال الكتاب والهروب من الاهتداء به ، ولكن المخذولين لما تركوا الاهتداء بالكتاب والسنة ، وجعلوا عبارات الكتب التي صنفوها هي مآخذ الدين وينابيعه صاروا يحتالون في تطبيق أعمالهم على تلك العبارات المخلوقة ، فيكتب أحدهم مثلا : تجب الزكاة على مالك النصاب إذا تم الحول وهو مالك له ، ثم يعمد هو وغيره إلى تطبيق دينه على هذه العبارات فيهب ماله قبل انقضاء الحول بيوم أو يومين إلى امرأته ولو مع الاشتراط عليها أن تعيده له بعد يوم أو يومين ، ويقول : إنه لم تجب عليه الزكاة بحسب نص الكتاب الذي سماه فقها ، ويدك بكلمة كتابه المخلوق كتاب الله القديم ، وسنة رسوله الحكيم ، وحكمة دينه القويم ، ويزعم مع هذا كله أنه مسلم مؤمن بالله وكتابه ورسوله ، بل يزعم أنه عالم فقيه في الدين ، يجب تقليده واتباعه على المؤمنين ، وربما يتبجح إذا سمع أو قرأ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ) لأنه يزعم أن الله أراد به خيرا ففقهه في الدين ، والحديث متفق عليه ، وفي رواية زيادة ( ( ويلهمه رشده ) ) .

فيا أهل الفطرة السليمة التي لم يفسدها فقه هؤلاء المحتالين على الله لهدم دينه أفتونا : [ ص: 97 ] هل العلم بمثل هذه الحيلة ينطبق على أصول البر التي ذكرها الله في هذه الآية ، وعلى الفقه والرشد الذي ذكره النبي في حديثه هذا ، أم هذه فتنة من فتن التقليد وأخذ الدين من الكتب المحدثة دون كتاب الله المجيد ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية