صفحة جزء
( فصل ) وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأغلظهم كفرا ، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم ، وكان سبب غزوهم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم ، فقال : قد جئتكم بعز الدهر ، جئتكم بقريش على ساداتها وغطفان على قاداتها وأنتم أهل الشوكة والسلاح ، فهلم حتى نناجز محمدا ونفرغ منه فقال له [ ص: 49 ] رئيسهم : بل جئتني والله بذل الدهر ، جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق . فلم يزل يخادعه ويعده ويمنيه ، حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم ، ففعل ونقضوا عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأظهروا سبه ، فبلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخبر ، فأرسل يستعلم الأمر فوجدهم قد نقضوا العهد فكبر وقال : ( أبشروا يا معشر المسلمين ) فلما انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحه فجاءه جبريل فقال : وضعت السلاح ، فإن الملائكة لم تضع أسلحتها ، فانهض بمن معك إلى بني قريظة ، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم ، وأقذف في قلوبهم الرعب . فسار جبرائيل في موكبه من الملائكة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار .

( فصل ) وأعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الراية علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ونازل حصون بني قريظة ، وحصرهم خمسا وعشرين ليلة ، ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال : إما أن يسلموا ، ويدخلوا مع محمد في دينه ، وإما أن يقتلوا ذراريهم ، ويخرجوا إليه بالسيوف مصلتين يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم ، وإما أن يهجموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت ؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه ، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن ، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره ، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون ، وقالوا : يا أبا لبابة : كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال : نعم . وأشار بيده إلى حلقه يقول : إنه الذبح ، ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله ، فمضى على وجهه ، ولم يرجع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أتى المسجد ، مسجد المدينة فربط نفسه بسارية المسجد ، وحلف ألا يحله إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده ، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا فلما بلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك قال : " دعوه حتى يتوب الله عليه " ثم تاب الله عليه وحله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده . ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقامت إليه الأوس ، فقالوا : يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج ، وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم . فقال : " ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ " قالوا : بلى . قال : " فذاك إلى سعد بن معاذ " قالوا : قد رضينا ، فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به ، فركب حمارا وجاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلوا يقولون [ ص: 50 ] له وهم كنفيه : يا سعد أجمل إلى مواليك ، فأحسن فيهم فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حكمك فيهم لتحسن فيهم ، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم ، فلما انتهى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للصحابة : " قوموا إلى سيدكم " فلما أنزلوه . قالوا : يا سعد ، هؤلاء القوم نزلوا على حكمك . قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا : نعم . قال : وعلى المسلمين ؟ قالوا : نعم . قال : وعلى من هاهنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إجلالا له وتعظيما ، قال : " نعم وعلي " قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول . وهرب عمرو بن سعد فانطلق فلم يعلم أين ذهب ، وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد ، فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ، ومن لم ينبت ألحق بالذرية ، فحفر لهم خنادق في سوق المدينة وضرب أعناقهم ، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة ، ولم يقتل من النساء أحدا سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سويد بن الصامت رحى فقتلته " انتهى المراد من فصول الهدي بحروفه مع حذف بعض المسائل كصلاة العصر في قريظة .

وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بني النضير ، وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين . إلا أن بعضهم لحقوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآمنهم وأسلموا . وأجلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهود المدينة كلهم بني قينقاع ( وهم قوم عبد الله بن سلام ) ويهود بني حارثة ، وكل يهودي كان في المدينة اهـ . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ( 59 : 3 و4 ) .

ثم إن كل هذا لم يعظ يهود خيبر ، ولم يزجرهم عن عداوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والكيد له ، بل كان من أمرهم السعي لتأليف الأحزاب من جميع القبائل لقتاله من قبل من لجأ إليهم من بني النضير كما تقدم ، فكانوا سبب غزوة الخندق التي زلزل المؤمنون فيها زلزالا شديدا كما وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب ، وسنحت للمؤمنين فرصة الاستراحة من شرهم بعد صلح المشركين في الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، فغزاهم [ ص: 51 ] رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأظفره الله بهم بعد حصار شديد لحصونهم ، وكان ذلك في المحرم سنة سبع . وبذلك زالت قوة اليهود من بلاد الحجاز كلها .

هذا وإنه لما كان ما كان من أمر اليهود مما تقدم شرحه ، أمر الله عز وجل رسوله بإجلاء من بقي في ذمته منهم وإن كانوا راضين بحكم الإسلام ، وقد كان من عدله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورحمته بهم بعد غزوة خيبر أن نصح للباقين منهم قبل إجلائهم ببيع أموالهم وإحراز أثمانها ، فقد روى الشيخان وغيرهما - واللفظ للبخاري - من حديث أبي هريرة قال : بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : " انطلقوا بنا إلى اليهود " فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس ، فقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فناداهم : " يا معشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم . فقال : " ذلك أريد " ثم قالها الثانية ، فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، ثم قال في الثالثة : " اعلموا أن الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم ، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله " اهـ .

قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ذلك أريد " معناه أريد اعترافكم بأنني بلغت دعوة ربي لا أن أكرهكم على الإسلام ، وإن إيذائي إياكم بالجلاء لا بد أن يكون بعد قيام الحجة عليكم ببلوغ الدعوة وعدم إجابتها ، وقوله : " إن الأرض لله ورسوله " معناه أنها لله ملكا وحكما ولرسوله تنفيذا للحكم وتصرفا في الأرض بأمره .

وبعد هذه العبر أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، وبألا يبقى فيها دينان ، بل لهذا سر ظهر للعيان في هذه الأزمان ، وهو ما أشار إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها رواه الشيخان من حديث أبي هريرة ، وقوله وهو أوضح : إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها رواه مسلم من حديث ابن عمر ، والترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني بلفظ " إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل " إلخ . وروى أحمد والشيخان من حديث ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصى عند موته بثلاث ( أولها ) : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " وروى أحمد ومسلم والترمذي عن عمر أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما " وروى أحمد من حديث عائشة قالت : آخر ما عهد به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن قال : لا يبرك بجزيرة العرب [ ص: 52 ] دينان وروي عن أبي عبيدة عامر بن الجراح قال : آخر ما تكلم به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب " قال الشافعي : جزيرة العرب التي أخرج عمر منها اليهود والنصارى مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ، فأما اليمن فليس من جزيرة العرب اهـ . أي ليس من الجزيرة المرادة بالحديث ؛ لأن عمر المنفذ للوصية النبوية لم يخرج اليهود منه ، فبهذا خصوا لفظ الجزيرة بالحجاز ، ومنه أرض خيبر فإن عمر أجلاهم منها . ويقول بعض العلماء بعموم الأحاديث وليس هذا المحل محل تحقيقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية