صفحة جزء
الباب الرابع

( في الإيمان وآياته وصفات أهله وفيه فصلان )

( الفصل الأول )

في المؤمنين الكاملين وفيه 18 أصلا

( الأصل الأول ) أن الإيمان الصادق يقتضي العمل الصالح من تقوى الله ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله . فمن كان قلبه مطمئنا بالإيمان بالله تعالى وبوحيه إلى رسوله ، وباليوم الآخر الذي يبعث فيه الموتى ويجزيهم بأعمالهم . يجد في نفسه داعية لما ذكر ، وهي مجامع الخير والهدى له في نفسه وفيمن يعيش معهم ، وفي النظام العام للأمة والدولة ، وهو الشرع الذي شرعه الله وبينه رسوله بالقول والفعل والحكم . سواء أكان حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاجتهاد أو النص . وهذا ما تدل عليه الشرطية في قوله تعالى من الآية الأولى فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما بيناه في تفسيرها . ومنه أن طاعة إمام المسلمين وقواد عسكره وأمرائه واجب بالتبع لطاعة الله وطاعة رسوله ، بشرط أن يكون بالمعروف ، كما قال في آية أخرى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 4 : 59 ) .

وأما غير المؤمن فلا يجد من الوازع والباعث في نفسه ما يجده المؤمن ، ولا يرجو ويخاف ما يرجوه المؤمن ويخافه من ربه ، وإنما يرجو من الناس أن يمدحوه أو يعينوه ، ويخافهم أن يذموه أو يعيبوه ، ويخشى الحكام أن يحتقروه أو يعاقبوه .

ثم بين لنا تعالى أن المؤمنين الصادقين الذين يكون لإيمانهم مثل هذه الثمرات الثلاث هم الذين يتحققون بالصفات الخمس التي قصروا أنفسهم عليها . أو قصرهم الإيمان في خيامها ، إذ قال في الآية الثانية : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى قوله : يتوكلون وكل منها أصل مستقل في هذا الباب فنذكرها بترتيبها .

( الأصل الثاني ) أن من شأن المؤمن الصادق أن يوجل قلبه عند ذكر الله تعالى والوجل استشعار المهابة والجلال ، أو الخوف والفزع ، وهو أنواع يبعث كل نوع من الذكر نوعا منها ، وتختلف باختلاف درجات المؤمنين ، وأعلى أنواعه شعور المهابة والعظمة [ ص: 114 ] والإجلال لربهم الرحمن الرحيم الخالق الرازق المدبر المسخر القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير ، ويليه الوجل من جهل العاقبة ، ومن العقوبة بالحجاب أو العذاب . وهذا الشعور بأنواعه آية الإيمان الوجداني وثمرته .

( الأصل الثالث ) أن من شأن المؤمن الصادق أن يزداد إيمانا إذا تلا أو تليت عليه آيات الله عز وجل ، بأن يربو شعوره في قلبه فيكون وجدانا لا يحوم حوله شك ولا ريب ، ولا يؤثر فيه مغالطة ولا جدل - وبأن يعطى فهما في القرآن ، بما يفتح عليه من معاني الآيات آنا بعد آن ، من مدلولات نصوصها وفحوى عباراتها ، ودقائق إشاراتها - وبما يؤتى من العبرة والموعظة بتدبره ، فيكون مزجيا له للعمل به ، فالإيمان يزيد بالكيف وبالكم جميعا ، ومن ذاق عرف ، وهذه آية الإيمان المشترك بين العقل والوجدان ، وهما الباعثان على الأعمال .

( الأصل الرابع ) أن من شأن المؤمن الصادق أن يتوكل على الله تعالى ، أي يكل أموره إليه وحده كما أفاده الحصر بقوله في هذه الآية : وعلى ربهم يتوكلون وفي معناها آيات في هذه السورة وغيرها ، بعضها بصيغة الحصر كهذه الآية ، وبعضها بصيغ أخرى اقتضتها الحال ، ولكل مقام مقال .

التوكل على الله تعالى أعلى مقامات التوحيد . فالمؤمن الموحد الكامل لا يتوكل على مخلوق مربوب لخالقه مثله ، بل مشهده في المخلوقات أنها أسباب سخر الله بعضها لبعض في نظام التقدير العام ، الذي أقام به أمور العالم المختار منها وغير المختار ، فكلها سواء في الخضوع لسننه في الأسباب والمسببات ، والسجود له في الانفعال بتقديره في نظام الكائنات ، وهي فيما وراء تسخيره إياها سواء في العجز عن النفع والضر إيجابا وسلبا فشأن المؤمن المتوكل في دائرة الأسباب أن يطلب كل شيء من سببه ، خضوعا لسننه تعالى في نظام خلقه ، وهو بذلك يطلبها من حيث أمره أن يطلبها أمرا تكوينيا قدريا ، وتشريعيا تكليفيا ، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها ، وكل أمره فيها إلى ربه تعالى ، داعيا إياه أن يعلمه ما جهل بما سنه من أسباب العلم ، ومنها الإلهام في بعض الأحيان - وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد أو حيوان أو إنسان ، وقد بين تعالى فائدته في قوله من هذه السورة : ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ( 49 ) وقد بينا موقعه في تفسيرها ( ص493 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) وفي آية : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ( 61 ) وبينا موقعها في تفسيرها في أول هذا الجزء ، وتقدم قبلها في معناها ، وهو متمم له قوله : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ( 62 ) ومثله قوله بعدها : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( 64 ) فالإحساب جزاء التقوى ، كما ورد في آيات أخرى .

التوكل مؤلف من الإيمان الاستفادي الوجداني ، ومن العمل الإيجابي والسلبي ، فكم [ ص: 115 ] من عمل يقدم عليه المؤمن المتوكل ، ويحجم عنه غيره لعظمته ، أو ما يخشى من عاقبته ، وكم من عمل يتركه المتوكل ولا تطيب نفس غيره بتركه ، لما يحرص عليه من فائدته ، أو يتوقعه من سوء مغبته . وليس من التوكل ترك الأسباب الصحيحة في المعيشة والكسب والتداوي والحرب وغيرها ، بل هو لا يتحقق بدونها ، ولكن ينافيه الأخذ بالأمور الوهمية كالرقية والطيرة ، وقد فصلنا هذا في مواضع ( من أوسعها ما في ص168 - 175 ج 4 ط الهيئة ) .

( الأصل الخامس ) أن من شأن المؤمن الصادق إقامة الصلاة ، أي أداؤها على أتم وجه وأكمله في أركانها وآدابها وسننها والخشوع والتدبر فيها . والصلاة عماد الدين ، وأكمل العبادات الروحية البدنية الاجتماعية ، وعبر عنها بالإيمان في قوله تعالى من آيات القبلة : وما كان الله ليضيع إيمانكم ( 2 : 143 ) كما قال جمهور المفسرين بقرينة السياق ، وقد وجهناه بأنه أثر الإيمان الراسخ في القلب ، المصلح للنفس ( ص9 وما بعدها ج 2 ط الهيئة ) وبينا أسرارها وحكمتها وفوائدها ومفاسد تركها في مواضع من ذلك الجزء والجزء الأول الذي قبله بإسهاب تام ، ولذلك اختصرنا الكلام عليها في تفسير آية هذه السورة من الجزء التاسع .

( الأصل السادس ) أن من شأن المؤمن الصادق الإنفاق في سبيل الله مما رزق الله ، وهو يشمل الزكاة المفروضة ، وغيرها من النفقات الواجبة والمستحبة . ولعل بذل المال في سبيل الله أقوى آيات الإيمان ، وقد بينا القول فيه حيث وقع الأمر به من سورة البقرة بالتفصيل ، ومن غيرها بالاختصار ، فهو العبادة المالية التي يتوقف عليها أهم الأعمال الدينية والدنيوية ، من منزلية ( عائلية ) ومدنية وعسكرية ، وبمجموع هذه الصفات يكمل الإيمان ، ويستحق صاحبه وعد الله المؤمنين سعادة الدنيا والآخرة ، وما ذكره تعالى من الجزاء في الأصل الآتي .

( الأصل السابع ) أن جزاء هؤلاء الكاملين ما بينه تعالى بقوله : أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ( 4 ) فراجع تفسيره في ( ص494 ج 9 ط الهيئة ) .

( الأصل الثامن ) من آيات الإيمان الكامل بالتوكل على الله استغاثة الرب وحده ، ولا سيما في الشدائد ، كما فعل جمهور المؤمنين مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدر وذكرهم به بعدها ، وبما من عليهم من الاستجابة لهم بها ، في قوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ( 9 ) الآية . وتجد في تفسيرها تحقيق الكلام في كمال توكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكون توكل صاحبه أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ دونه ، وما كان من خوفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببدر وسكينته في الغار ، وإعطائه كل مقام حقه ، كما ذكرناه في الفصل الأول من الباب الثاني من هذه الخلاصة .

[ ص: 116 ] ( الأصل التاسع ) عناية الله تعالى بعباده المؤمنين الكاملين من أهل بدر التي أثنى عليهم بها في الآيات 9 - 12 ( أصل 6 فصل 1 باب 2 ) وقد أشرنا إليه آنفا في الكلام على عنايته تعالى برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

( الأصل العاشر ) أن الله تعالى يبلو المؤمنين بلاء حسنا بمثل النصر والغنيمة ، كما يبلوهم أحيانا بلاء شديدا بالبؤس والهزيمة تربية لهم ، وبيانه في تفسير قوله تعالى من الآية : وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ( 17 ) وبكلا البلاءين يتم تمحيص المؤمنين " راجع ص518 وما بعدها ج 9 . ط الهيئة " .

( الأصل الحادي عشر ) إرشاده المؤمنين إلى ما يغفل عنه الجاهلون من الانتفاع بنعمة الله عليهم في سماع العلم والحكمة ، واتقاء ما يصرف عنه من الإعراض والغفلة ، وذلك في الآيتين 20 و21 وتدبر ما فسرناهما به في ( ص520 - 525 ج 9 ط الهيئة ) .

( الأصل الثاني عشر ) إرشاده تعالى إياهم إلى الحياة المعنوية ، التي يرتقون بها عن أنواع الحياة الحيوانية ، وهو ما يدعوهم إليه الرسول بكتاب الله تعالى فتدبر فيه الآية 24 وتفسيرها في ( ص525 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) .

( الأصل الثالث عشر ) إرشاده إياهم إلى سنته في جعل الأموال والأولاد فتنة للناس ، أي امتحانا شديد الوقع في النفس ، وتحذيرا لهم من الخروج في أموالهم ومصالح أولادهم عن الحق والعدل ، بقوله : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ( 28 ) وهذا أصل عظيم في تربية المؤمن نفسه على التزام الحق ، وكسب الحلال ، واجتناب الحرام ، واتقاء الطمع والدناءة في سبيل جمع المال والادخار للأولاد . وقد كان أكثر أولاد المؤمنين عند نزول هذه الآية مشركين ، وفيهم نزل قوله تعالى : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ( 64 : 14 و15 ) وإننا نرى كثيرا من المسلمين ، حتى اللابسين منهم لباس الدين يرتكبون المعاصي والدنايا في هاتين الفتنتين ، ومنهم من يحرم بعض أزواجه وأولاده من إرثه بالهبة للآخرين منهم ، أو وقف العقار وحبسه عليهم .

( الأصل الرابع عشر ) تذكير المؤمنين بماضيهم ، وما كان من ضعف أمتهم ، واستضعاف الشعوب لهم ، وخوفهم من تخطف الناس إياهم ، ليعلموا ما أفادهم الإسلام من عزة وقوة ومنعة قبل إثخانه في الأرض ، وتمكن سلطانه فيها ، ومعرفة تاريخ الأمة في ماضيها أكبر عون لها على إصلاح حالها واستعدادها لاستقبالها ، فراجع الآية 26 وتفسيرها في ( ص531 ج 9 ط الهيئة ) .

( الأصل الخامس عشر ) جعل الألف منهم يغلب ألفين من الذين كفروا في حال الضعف [ ص: 117 ] على سبيل الرخصة - وجعل الألف منهم يغلب عشرة آلاف من الكافرين في حال القوة على سبيل العزيمة ، كما نص في الآيتين 65 و66 ويذكر مفصلا في باب قواعد الأحكام الحربية .

( الأصل السادس عشر ) إرشاد المؤمنين إلى ما يكتسبون به ملكة الفرقان العلمي الوجداني الذي يفرق به صاحبه بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والمصلحة والمفسدة . وتجد هذا في الآية 29 وتفسيرها في ص ( 538 - 540 ج 9 ط . الهيئة وبذكر هذا الأصل في السنة السادسة من سنن الاجتماع .

( الأصل السابع عشر ) امتنان الله على رسوله الأعظم بتأييده وبنصره وبالمؤمنين ، وبتأليفه بين قلوبهم ، ويا لها من منة عظيمة من مننه تعالى عليهم ، ومنقبة هي أعظم مناقبهم ، " راجع تفسير الآية 63 في أول هذا الجزء " .

( الأصل الثامن عشر ) منة الله تعالى وفضله على أصحاب رسوله ، ولا سيما أهل بدر بمشاركتهم إياه في كفاية الله تعالى إياه وإحسابه له ولهم في قوله عز وجل : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( 64 ) وتجد تفسيرها في أول هذا الجزء .

وهذا أشرف ما شرفهم الله تعالى به ، وتقدم ذكره في عنايته تعالى برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

إيقاظ واعتبار

من تدبر هذه الأصول يعلم كنه الإيمان وثمراته ، وأنه ليس جنسية سياسية ، ولا دعوة لسانية ، بل هو أعلى المراتب البشرية ، والكمالات الإنسانية ، المطهرة لأهله من الخرافات والدناءات ، فليزن القارئ إيمانه بميزان القرآن ، وليكن له أسوة حسنة في الذين سبقونا بالإيمان .

الفصل الثاني

( في حالة ضعفاء المؤمنين إيمانا أو حالا ونفسا وقرب بعضهم من المنافقين )

بعد أن بين صفات المؤمنين الكاملين في أول السورة ، ومنهم أكثر أهل بدر ، بين حال غير كاملي الإيمان منهم بقوله : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ( 5 و6 ) .

وقال في تعجب المنافقين وضعفاء الإيمان من إقدام كملة المؤمنين على قتال المشركين في بدر على ما بين الفريقين من التفاوت : إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ( 49 ) .

وقال في تعزير الذين أخذوا الفداء من أسرى بدر قبل إذنه تعالى لهم به تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة إلى قوله : عذاب عظيم ( 67 و68 ) .

[ ص: 118 ] فمن أقام قسطاس الموازنة المستقيم بين ضعفاء الإيمان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأقوى مؤمني هذا العصر إيمانا يعلم مقدار بعد المسافة بين الفريقين . وأما كملة الإيمان منهم وهم الأكثرون ، فهم الذين قال فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري والنصيف مكيال أو نصف المد .

التالي السابق


الخدمات العلمية